Sunday, June 27, 2010

مذكرات كوبرى قصر النيل


عندما استيقظ الانسان الأول من النوم، وجد المياه تجرى فى الانهار، كان سعيداً أشد السعادة، وظل يقربع منها دون أن يهتم بشئ، حتى كبر الإنسان ودخل الجامعة واكتشف انه حتى يذهب إلى جامعة القاهرة فلابد أن يعبر ذلك النهر المبلول بالمياه، وفكر وقدّر؛ فقتل كيف قدر، فلجأ إلى بناء الكبارى على الانهار وهى أجسام يعبر عليها دون أن يقع زرع بصل فى النهر، بنى طريقاً من الخرسانة وألواح الحديد أستخدمها فى العبور الناجح من على المياه، ثم بعد فترة إكتشف أن الاطفال تترك أيدى أباءهم ونسمع صوت طشششش، ونجد هؤلاء الاطفال الأبرياء (والله ولا أبرياء ولا حاجة دول مجرمين) واقعين فى النهر زرع بصل.

 هنا لجأ الانسان العبقرى إلى إنشاء ما يسمى بسور الكوبرى وزرع عليه أعمدة كان الهدف الاساسى منها الانار (وليس الدعارة) ثم لما تطور الإنسان واكتشف أن نور ربنا موجود وأن الشمس تقوم بواجب اضاءة معتبر لجأ لاستخدام عواميد النور لتلبية أغراض أخرى لا داعى لذكرها.. الآن.

وهكذا كنتُ أول كوبرى ينشأه المصريون فوق النيل حتى يعبروا على جسدى من ميدان التحرير إلى الجيزة، وقاموا فى البداية بفرض رسوم عبور على جسمى حسب نوع المار بالجسر، فالرجال والنساء ربع قرش والاطفال والغزلان معفيين من الرسوم (أى والله كان بيعدى من عليا غزلان) والعربات المليئة بالبضائع قرشين والعربيات الفارغة قرش واحد يا بلاش.

وتمر الأيام ويكبر المصريون ويتنصحوا ماشاء الله.. ويعلموا أن النيل ذو سحر مبهج وجمال أخاذ، فظهرت فئة منهم ممن يتميزون بالبلطجة،  نشروا الكراسىٍ البلاستيكية، ووضعوا بجوارها عربات حمص الشام الساخن واغروا العشاق بالجلوس عليها على أن يأكلوا الذرة المشوى والترمس مقابل عدة جنيهات وهكذا تحولت وظيفتى من نقل البنى أدمين من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى.. إلى احتواء البنى أدمين فوق ظهرى لإقتناص لحظات من الحظ والسعادة والحب.

ثم أتت مرحلة جديدة قالت البلدية فيها كلمتها ورفضت كل كرسى وكل جالس وأصرت على أن ممارسة الحب على الواقف أكثر صحية، فقام العشاق من على كراسيهم كالوتد، ووقف كل عاشق بجوار عمود نور من أعمدتى وقال كلمته دون أن يراه سوى عدة ملايين.

ولقد سمعت هذا الحوار ذات مرة يدور فوق إذنى:
هى: بحبك أوى يا أحمد.. هتيجى تكلم بابا أمتى؟
هو: وانا بموت فيكى.. بس لازم نتعرف على بعض اكتر.
هى: طب ما احنا يا نن قلبى ماشيين مع بعض من ست سنين.
هو: أيوة يا مهجة عيونى بس ما جربناش الكوبرى ده.
هى: طب ما انت يا حبيبى اللى ساكت.. ياللا نجربه..

وبعد ما جربونى، أحمر وجهى خجلاً، وصار الاف من العشاق يقومون بتجربتى كل يوم.. إلى أن اكتشفت – فى يوم من ذات الايام – انهم لا يجربوننى ولكنهم يجربون بعض.

كح كح كح
كدت أن أختنق هذا الصباح عندما جاء شاب غريب وربط حبله حول أحد أعناقى المضيئة، وكأنه لم يكتفى بما فعله على كتفى منذ يومين عندما جاء مع بنت الجيران (كانوا بيجربونى) لكنه اليوم أتى غاضباً حزيناً مهموماً حاولت أن أتذكر الحوار الذى دار بين هذا الشاب وبين بنت الجيران :

هو: عفاف حبيبتى أهلك واقفين فى طريق حبنا.
هى: ولا مخلوق يقدر يبعدنى عنك لحظة.
هو: لأ احنا مش فيلم عربى.. انا لا عندى شقة ولا مهر ولا شبكة ومش لاقى شغل.. بس انا يا حبيبتى بحبك وتعبان ومحتاجك معايا.
هى: وانا مقدرش اعمل حاجة حرام من ورا اهلى.
هو: أمال بتعملى من قدام اهلك عادى؟ حبيبتى انا ما اقصدش كدة، انا اقصد انهم يوافقوا نقعد فوق سطوح بيتكم مؤقتاً، وأبوكى يشغلنى عنده فى الورشة لحد ما ربنا يفرجها..
هى: حاولت كتير معاه لكنه منشف دماغه.. اهئ اهئ اهئ
هو: (تنزلق من عينيه دمعه إلى النيل) انا مش هقدر اعيش من غيرك لحظة.. خلاص أنا اخدت قرار

ثم جاء اليوم حزيناً ومعه حبل، ربط طرفاً فى عمود، والطرف الاخر فى رقبته، ثم توقف للحظة نظر فيها إلى شئ بعيد لم اعرف ما هو (لكن عرفت فيما بعد أن حبيبته تسكن بولاق أبو العلا) ثم قفز .. هوووب فى الهواء ليتدلى جسده من فوق جسدى ولتنفصل رأسه عن جسمه ويبقى الجسم متعلقاً بقليل من فقرات العمود الفقرى..

أكثر ما آلمنى أن حبيبته بعد ذلك أصبحت تأتى كل يوم وحيدة إلى هذا المكان.


أحمد الصباغ

No comments:

Post a Comment