أغلق باب حجرته ونافذته فأظلمت الغرفة.. استلقى على سريره وأغمض عينيه بعد يوم طويل متعب .. هو وحده فى المنزل لكنه يحتاج الآن الراحة أكثر من إحتياجه لأى شخص آخر ..
إستسلم لغفوة بعدها أصبحت الغرفة أكثر سكوناً وظلاماً إلى أن راح فى سبات عميق وهادئ .. حينئذ إمتدت يد غريبة لتفتح باب غرفته بهدوء حذر، ثم خطوات حذرة تتحرك نحو الكوميدينو بجوار سرير تمسك بنظارته فى حرص شديد وتضع نظارة أخرى مشابهة تماماً لنظراته ذات الإطار البنى تتراجع الخطوات تغلق خلفها الباب وتختفى تماماً من الوجود..
عندما أطلت أشعة الشمس على السماء الدنيا فتح عينيه وقام نشواناً من نومه، نظر فى الساعة الفسفورية المعلقة فى غرفته تلفـّت يمينه .. إلتقط النظارة ولبسها..
كانت الثلاجة فيها بقايا من جبن الأمس وقطعة من ورك فرخة يتيم حملهما وإستعان بحتة لقمة كان قد قام بتقميرها عدة مرات لكنها لم تحظى بشرف الأكل .. فتح التلفاز يستمع إلى الأخبار .. لكن ما هى إلا دقائق حتى توقف عن الأكل مترقباً فقد كانت الأخبار مهمة :
الإتحاد العربى يواجه مشكلةٍ ما، فبعد أن إتحدت الدول العربية تحت علم واحد ورئيس واحد وعملة واحدة يواجه الإتحاد تحديات إقتصادية صعبة إزاء دولاً تكبدت خسائر فادحة من قيام ذلك الإتحاد وتحاربه إقتصادياً بشتى الطرق..
أمريكا قامت بتعويم الدولار فى مقابل الجنيه العربى، والاتحاد الأوربى يدرس إيجاد بدائل لصادرات الإتحاد العربى إليه .. مجلس قيادة الإتحاد العربى يدرس رفع سعر برميل النفط بعد أن وجد إقبالاً عالمياً شديداً وذلك بعد أن أعلنت فنزويلا وإيران نفاد مخزونهما من البترول..
وعلم أن المحكمة أصدرت حكماً بالسجن خمس سنوات على مسلم قام بإزدراء شخص مسيحى وبثلاثة أعوام على مدرس قام بضرب تلميذ فأحدث له إصابة بالغة فى يده ..
أراد أن يغير جو هذه العكننة التى اجتاحته إثر تلك الأخبار فضغط زر الريموت باتجاه قناة "ميلودى تتحدى الملل" طمعاً فى مطالعة تضاريس "بووبى" لكنه وجدها فعلاً تتحدى الملل وذلك حيث تقوم بعرض كتاب الأستاذ هيكل الجديد وتتلقى ردود أفعال المشاهدين وهى ترتدى نظارة أنيقة وملابس محترمة، فشعر أن "بووبى" التى كانت تملأ لحظات وحدته بالنشوة قد تغيرت وأنه لا مناص من الزواج ليجد من يملا لحظاته بتلك النشوة المفقودة ..
بعد زواجه فوجئ بأن خطاب مسجل بعلم الوصول قد أتاه وحينما وجد أن الحكومة تخبره بأن عليه الذهاب لأقرب مكتب بريد لإستلام منحة الزواج التى قد قررت الحكومة تخصصيها لأى شاب متزوج ، وتطبق فى جميع أرجاء الإتحاد العربى ..
فقد محفظته فوجد بعد يومين ظابطاً يأتيه بها فى منزله ، مرضت مريم – زوجته – فتم عالجها فى أفخم المستشفيات على نفقة الدولة ، كبروا الأولاد فتم إستدعاءه من قبل وزارة التربية والتعليم حتى يختار المدرسة المناسبه لمكان سكنه .. وإختار تلك المدرسة من بين 250 مدرسة فى منطقته كلها تدار على أحدث الأسس التربوية والتكنولوجية فى العالم ..
صحيح أن عدد السكان حسب إحصائية مركز نظم معلومات الإتحاد العربى قالت بأن الإتحاد العربى يضم ملياراً وربع المليار نسمة .. لكن موارد الإتحاد من البترول والثروة السمكية والسياحة والزراعة والصناعة تفيض وتم تخصيص حوالىّ 200 مليار جنيه عربى كمعونات لبلاد يجتاحها الفقر.
استرجع ذكريات أليمة كانت بلاده تعانى من الفقر والتسول وبلطجة رجال الشرطة وتذكر أيام اعتصامات رصيف مجلس الشورى وتلك التصفية التى عانى منها المسيحيين بواسطة إرهابيين مأجورين وبمعاونة الأمن الذى كان يحكم البلد فى تلك الفترة ..
تذكر أيام ما كان لا يجد للتعبير عما يجيش فى صدره من غضب سوى كتابة "إستيتوس" على الفيسبوك، ولا يتلقى تعازى من شركاؤه فى الوطن سوى "لايك" أو "كومنت" على أقصى تقدير ..
تذكر أيام ما كان يودع صديقه المسيحى "مينا" وداعاً حاراً كلما أراد "مينا" السفر لزيارة أهله وكأنه يشعر أنه الوداع الأخير .. إلى أن أصبح بالفعل وداعاً أخيراً .. ولم يرى "مينا" بعدها..
تذكر أيام ما كان ينتظر ساعتين كاملتين فى شمس الصيف الحارة حتى يأتى الأوتوبيس، ذلك الأوتوبيس الذى يلفظ من البشر بعضاً من الناجين قبل أن ينقلب الأتوبيس بعدها من فوق الكوبرى أو فى ترعة ..
تذكر أيام ما كان خيرة شباب الوطن يرزحون تحت نير البطالة والمخدرات والدعارة والشبق الجنسى ، ولجأ أغلبهم إلى الهجرة عبر البحر التى كانت تنتهى نهايات مأساوية ..
انتفضت على لمسة حانية من يد مريم البيضاء وقُبلة شهية من شفتاها الفراولتان فقام محتضنها فى شهوة، وجرّها جراً إلى السرير وهى تتمنع تمنع الراغبات .. وأطفأ النور وألقى نفسه فى ذلك الظلام الطرى اللذيذ .. لكن اليد المتسللة عادت وبدلت النظارة مرة أخرى.
أحمد الصباغ