Saturday, November 8, 2008

لقـــاء الشفق الأخــير

قصة قصيرة
كان الفراق مكتوباً .. وكانت كل الأحداث المادية تسيّـرنا - بلا إرادة - إلى الفراق
وكان الفراق أشبه بمحبٍ يقتل حبيبهُ فى لحظة سُكرٍ أليمة
وعندما افترقنا قررنا ان نلتقى مرة واحدة فى السنة .. كان يوم الرابع من يونيو من كل عام
 وهو يوم عيد ميلادها .. الذى كنا نحتفل به سوياً فى الأيام التى جمعتنا
نلتقى مع أول لحظات هذا اليوم ، ونمضى اليوم سوياُ .. على أن نفترق قبل انتصاف الليل .. وألا يتعدى التواصل بيننا هذا اللقاء .. وكان إتفاقاً غريباً .. يدل على أن موت الحب فينا كان من النوع .. الإكلينيكى فقط
ومكان الملتقى هو صخرة فى الجزء الغربى من الهضبة العالية التى تقبع عليها قلعة صلاح الدين الأيوبى .. وتطل على سماء القاهرة
يشرف مكان الملتقى على أول مكان للقاء بيننا .. وهو الطريق الضيق بين الجامعين .. جامع السلطان حسن وجامع الرفاعى على بعد خطوات من ميدان صلاح الدين

ومر عــام كامل على فراقنا
وكنت اجمع لهفتى واشواقى وحنين وذكرياتى طوال العام .. واستعد لذلك اليوم استعدادا تاريخيا .. استعد له باللهفة .. وبالاشياق .. وأجمع من الحب ما يكفى سكان الارض والكواكب ... واستعد بالمال .. أدخر عدة ألاف من الجنيهات .. استعدادا لإنفاقها فى هذا اليوم
وعندما كانت تقول لى : حافظ على فلوسك عشان ربنا يكرمك وترتبط ببنت الحلال
كنت انفجر فى البكاء وارتمى بين يديها كطفلٍ صغير
وأشعر وكأنها من يشترى سعادتى بموته .. ومن ينسج لنفسهِ لحدا بخيوط من سعادة حبيبه
وكان يوم اللقاء الأول
وفى فجر الرابع من يونيــو بعد مرور عام على الفراق
وقفت أنتظر قدومها الرهيب فوق هضبة القلعة العاليـة
وتبدو المنازل والجوامع والمصابيح فى شوارع القاهرة  كآلاف النجوم فى ليل سرمدي بلا نهاية
وتبدوا الأهرامــات كآخر أشباح الليل الرهيب
ويبدوا برج القاهرة كشاهد على قبر حبٍ إسطورى قد إنتهى
ويبدوا النيل شرياناً منفجر منذ آلاف السنين على أوراق الوادى الضائعة
وانتظرها فى الميعاد الأول .. الدقائق الأخيرة من ليل الرابع من يونيــو
إشتياقُ عنيف .. وحنينُ لا مثيل له فى تاريخ الأحبة
ولهفة لا تقدرها قلوب كل البشر
ومع إختراق أول شعاع للفجر لسماء الحياة الدنيا المتشحة بالظلام
كان اللقاء
 رهيباً .. مهيبــــاً
أتت من بعيد تتهادى فى خطوات أنثوية هادئة متلهفة
وعندما اتضحت ملامح وجهها لعينى انطلقتُ إليها
وجثيت على ركبتى .. وانفجرت الدموع فى عينى
وظللت أقبل يديها .. قبلات اودعها حبى واشتياقى لها
وقضينا عدة ساعات فى الهمس ، والنظرات ، وكلام العيون والشفاه
إلى أن أتى أول قادم بشرى إلى المكان .. فهبطنا من الهضبة العالية
الى الوادى .. الى المكان الأجمل .. بين الجامعين
كنا كروحين شفافتين تيهبطان من السماء الى الدنيا
فنتجول فى الأماكن التى شهدت حبنا .. شارع القلعة .. وميدان السيدة عائشة
وأسوار الحلمية القديمة .. مروراً بسوق السلاح إلى شارع بورسعيد
ثم أتذكر آلاف الجنيهات التى ادخرتها طوال العام لهذا اليوم فأجدها غير ذات قيمة
لا تشترى لحظة واحدة من لحظات إشتياق الأحبـة
ينتقل المكان بنا إلى باخرة نيلية .. وإلى كورنيش النيل فى الجيزة .. وإلى كوبرى عباس .. وإلى شوارع البحر الأعظم .. وتأخذنا أقدامنا الى حيث  آيس كريم " لارين " بمنيل الروضة الذى تعودنا زيارته سوياً
وفجاءة .. وكعادة الوقت الجميل .. يباغتنا منتصف الليل بقدومه .. فتهب من مكانها حاملة شنطتها ، وتودعنى بنظراتها .. وأنا كالمذهول .. لا أرى أمامى سوى عاماً أخرى يدوسنى بقدماه ويعذبنى بلهيب انتظاره
وأفيق من ذهولى وقد غابت وسط الزحام استحث النظرات بين جموع البشر المتناثر على ضفاف النيل لكى أنعم بنظرة أخيرة لها .. فلا أجدها .. فيجن جنونى .. وأحمل فوق كتفى عاماً آخر
وهكذا
مرت أربعة سنوات على قرار الفراق .. وعلى تلاقينا السنوى
كل عام فى فجر الرابع من يونيـو .. تهب الدنيا لمراسم اللقاء .. ويزيد اللهفة .. ويزيد الإشتياق .. ويزيد العذاب
وهذا العام .. وفى فجر الرابع من يونيــو
أنتظر الآن على هضبة القلعة العالية .. وأتى الفجر الرهيب .. وهبّت نسمات الليل .. وتألقت نجوم السماء ..
ودق أول شعاع الشمس ناقوس الدنيا..
ولكنها لم تأتى
بعد لحظات قصيرة عرفت انها لن تأتى .. فهى لم يسبق لها أن اخلفت ميعادها ولو بثوانٍ قليلة
أدركت ان ثمة شيئاً منعها ..
قد يكون رجلاً أخر قد دخل حياتها .. وقد يكون ظرفاً صحياً .. وقد يكون سفراً مفاجئاً
وقد يكون الموت
عندما أتى الإحتمال الأخير إلى رأسى
جن جنونى
وأحسست أن الدماء تغلى فى رأسى .. وأنها على وشك الإنفجار
فأنا الآن .. لا أعرف عنوانها الحالى .. ولا أملك من وسائل الاتصال بها وسيلة
كنا قد إتفقنا على أن يكون هذا اللقاء هو الوسيلة الوحيدة
ظللت حتى قدوم أول بشرى إلى المكان تروادنى الظنون والأفكار
وفى كل لحظة أتخيلها قادمة من بعيد بمشيتها الأنثوية الرقيقة
وبعنينيها الملهوفتين .. وأشواقها التى تسبقها
ولكنها لم تأتى .. لم تأتى فى هذ اليوم .. ولا فى أى يوم آخر
ظللت حتى المساء وحدى على الصخرة
أرقب النجوم فى السماء .. ثم الشمس .. ثم الغروب
وأرقب القاهرة بمنازلها وجوامعها وشوارعها التى ازدحمت مع اقتراب الظهيرة
وعيون الناس ترقبنى
وظللت أياماً أأتى إلى المكان
انتظر حتى المساء
إلى أن يغلبنى الليل بوحشته فأقوم الى منزلى
وظللت شهورا
إلى أن جاء ميعاد الملتقى فى العام التالى .. فمنّـيت نفسى بلقاء
وانتظرت .. ولم تأتى
واليـوم
سبع سنوات .. مرت على آخر لقائى بها
وأنا انتظرها فى يقطتى وفى منامى .. وأراها أمام عينى فى الشوارع وفى البيوت وفى عشرات اللوحات التى رسمتها بدمائى .. وفى أبيات الشعر التى كتبتها بمداد من دمى
سبع سنوات مرت .. ولا أدرى كيف مرت
سبع سنوات إقتطعت من عمرى .. وأراها بالزمن اليسير الرخيص .. وعمرى كله لا يساوى شيئا أما لحظات لقائى بها .. وكنت دائما أتمنى لو لم نكن قد إفترقنا منذ البدايــة
****
بعد مرور عشر سنوات كاملـلة على أخر لقاء لى بها .. أودعنى أهلى إحدى مصحّات العلاج النفسى الحكومية الكئيبة .. وأنا أعلم أننى لست مريضا نفسياً ، لكننى تركت نفسى لهم .. لإقضى عمرى وحيداُ بين المجانين.. فكم يبدو عمرى رخيصاً زهيداً أمام لحظة من لحظات إلتقاء عينى بعينها .. وكنت كلما تعذبت بالوحدة وبالكئابة بين المجانين  .. كلما زدت استمتاعاً وسكراً وبكاءاً
أحمد الصباغ

No comments:

Post a Comment