Monday, February 23, 2009

دمـــاء فى الحـــسين

مالت "ليليان" على زوجها فى دلال وإحتضنته فى قوة وتجاوزت فرحتها كل أطراف باريس .. وإحتضنت إبنها ذو الثلاث سنوات بشدة .. فإنتقلت له عدوى السعادة .. وظل يقفز فى مرح .. وعدها اليوم "جوليان" بزيارة مصر فى فبراير من العام القادم .. ياللسماء .. الآن ستزور الأهرامات .. وسترى التماثيل الفرعونية الضحمة .. سترى تعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى .. وستدخل أكبر متاحف العالم فى القاهرة .. سترى تماثيلاً ومومياوات خالدة منذ آلاف السنين ..

كانت "ليليان" تحلم منذ الصغير بزيارة مصر .. هى زارت كمعظم الفرنسيين أسبانيا وإيطاليا وسويسرا .. لكن زيارة مصر بالنسبة لها تعنى شيئاً آخر .. كانت جدتها تحكى لها عن والدها – الجد الأكبر – أنه زار مصر فى بدايات القرن التاسع عشر وأرتها العديد من الصور القديمة الضاربة فى التاريخ ..
سترى القناع الذهبى لتوت عنخ أمون الذى بهر العالم أجمع .. ووقف جميع الخلائق فى إنبهار أمام عظمة وعبقرية الإنسان المصرى القديم ..

ستدخل بقدميها الرقيقتين قلعة صلاح الدين الأيوبى .. قلعة القاهرة .. وأى قاهرة .. إنها قاهرة المعز لدين الله .. لقد شاهدت عشرات الأفلام التى إتخذت من القاهرة الفاطمية مسرحاً لها .. وشاهدت ترجمة لفيلم الناصر صلاح الدين .. إنها تعلم جيداً ماذا تعنى كلمة قلعة صلاح الدين .. إنها تعنى أسواراً شاهقة .. وأبراجاً ضخماً .. كانت يقبع فى هذة الأبراج .. حرس القلعة منذ مئات السنين .. تعنى قصر الجوهرة ومسجد محمد على .. إنها تتراقص فرحاً .. فسترى المكان الذى دفن فيه "محمد على " مؤسس مصر الحديثة الذى سمعت عنه فى كتب التاريخ

ياللسماء .. هتفت فى سعادة غامرة .. إنها ستزور مكاناً سمعت عنه آلاف المرات .. ورأته فى الصور آلاف المرات .. ولطالما حلمت بأن تسير فيه بقدميها .. إنه خان الخليلى .. يالروعة السماء .. لقد تحققت إمنيتها .. إنها تشعر انها أسعد إمراءة فى الكون .. كان تذهب كل دقيقة لإحتضان "جوليان" وتتراقص حوله كفراشة تتراقص حول شمعة
ودّعت إمها وقبلتها فى خديها .. وأودعتها أمها قبلة وحضن فيهما من الحنان والأمومة والدعوات ما تنوء به الكلمات والسطور ..
وجاء فبراير المنتظر .. فبراير الذى حمل معه الكثير من الأحداث .. زارت الأهرامات .. والمتحف المصرى .. والقلعة .. وعشرات من الأماكن .. أحسّت بأن المكان حولها  يتحدث الآن بلغة أخرى .. لغة أكثر إنسانية ورقى .. لغةُ ، لو سُطّرت لكانت لغة تنطق نفسها .. إنبهرت إيما الإنبهار .. وأعجبت بمصر إعجاباً لا حد له .. شعرت فى نظرات الناس الغلابة بشعور أبكاها كثيراً .. شعرت بسعادة مطلقة فى حضن شعاع الشمس عندما تعامد على وجه رمسيس الثانى


جاعت .. فالسعادة دائماً تُشعر الإنسان بجوع شديد فاتجهت مع "جوليان" وإبنها الصغير إلى تلك المحلات المضيئة كمئات من النجوم تلمع فى سماء ساحة المشهد الحسينى .. تحتار كثيراً فى الإختيار ما بين المأكولات المصرية الشعبية وما بين الإرز باللبن بالقشطة من عند المالكى .. تحتار فى روعة كوباية الشاى وعبقريتها فى قهوة الفيشاوى

لكنها الآن حسمت أمرها وطلبت من "جوليان" أن تأكل كفتة وحمام محشى على الطريقة المصرية سال لعابها .. وزادت ضربات قلبها .. شعرت بأن تعب الأربع أيام التى قضتها فى مصر قد حل بها الآن .. تحتاج بشدة الآن للراحة مع الكفتة والحمام المحشى .. ثم كوباية شاى مصرية .. مر من أمام عينيها شريط به مليون لقطة مصرية .. رمال .. تماثيل .. مشغولات ذهبية .. زخارف .. أوانى نحاسية .. منسوجات يدوية .. مليون لقطة مرت أمامها .. تشعر فى رهبة المشهد الحسينى بإنها فى ساحة أعظم ميدان مقدس فى العالم .. لكن أصوات البشر فى الساحة تتدخل .. والأضواء تتدخل .. وتشعر بدوار خفيف .. وتحس بغيوم غريبة تحلق فوق رأسها وحدها .. غيوم بيضاء صنعتها آلاف المصابيح فى الميدان الرهيب .. الناس تحدق فى قلق .. الأطفال توقفت فجاءة عن اللعب .. إبنها الصغير يتطلع فجاءة لمكان مجهول ربما فوق قبة الجامع الحسينى .. زوجها توقف لينظر فى أفقِ بعيد بتوتر .. المشهد توقف كفيلم تم إيقافة فجاءة .. سكونُ حل لجزء من الثانية .. سكون تام .. ثم .. إنفجار رهيب .. إنفجاء أسود مدوى .. شعرت بإنفصال لحظى عن الزمان والمكان .. زادت الغيوم وإزداد تداخل الأصوات والأضواء فى عينيها وإصطبغت الحياه حولها بلون أحمر قرمزى خفيف .. وسمعت أصوات عربية وفرنسية حولها .. لم تدركها .. ولم تشعر إلا بصوت سارينة عربية إسعاف تحملها فى شارع واسع .. تسير خلفها عربية أخرى يطل منها وجه "جوليان" مذعور باكٍ دامٍ .. لم ترى إبنها الصغير .. شعرت بإن بقايا قلبها ينفطر ..وآلاف من المصريين يتطلعون للسيارة التى تحملها فى ذهول الصدمة .. تذكرت إمها .. أحست برغبة عارمة فى البكاء لكنها لم تستطع .. ببساطة لإنها الآن أشلاء تم جمعها فى كيس .. وذهبت لتودع الحياه
قصــة قصيرة
أحمد الصباغ

No comments:

Post a Comment