كان يشعر أنه فى ميدان التحرير كقطة بين ناطحات السحاب فى نيويورك، لعن ألف مرة ذلك الصباح الذى فكر فيه من النزول من شقته بشبرا إلى مبنى المجلس الوطنى لإتحاد اليساريين والإشتراكيين ليلقى بكلمة رنانة هزت القاعة وألهبت الأيادى بالتصفيق ..
"أمين الرميحى" أحد أبرز رموز المعارضة فى البلاد ، وزعيم الإشتراكيين واليساريين وصديق حميم للشيوعيين ، وملهم "الحركة الوطنية من أجل الإصلاح الإشتراكى" الأول، وأحد ألد أعداء الرأسمالية فى البلاد العربية .. والعدو الأول لأمريكا فى المنطقة.. إمتلأت حياته بمواقفه الوطنية المعادية للرأسمالية الغربية ولأمريكا خصوصاً.. عشرات من الخطب الرنانة ضد البرجوازية الأمريكية العفنة، ورؤوس الأموال الإستيطانية فى البلاد العربية، ومئات الدعوات لمقاطعة المنتجات الأمريكية إنطلقت من منابره فى الحزب الذى أسسه منذ أكثر من عشر سنوات الحزب الإشتراكى الثورى.
يتميز "أمين" بحب جارف من كل مرؤسية فى العمل.. إشتراكيته.. زهدة وتقشفه.. ملابسه القديمة.. ونظارته السميكة..حذائه المقطوع دائماً.. شقته وأسرته الفقيرة فى شبرا.. جعلت منه نموذجاً ثورياً يحتذى به.. وفاكهة المظاهرات والندوات والمؤتمرات.. وملكاً للخطب الثورية الرنانة.. ومثلاً أعلى لكل شباب البلد الغاضب والثائر ضد الطبقية اللعينة التى تنخر فى أساسات الطبقة الوسطى.. وتحيل المجتمع إلى شحاتين ومليارديرات.
واليوم إندمج بشدة فى خطبته العصماء فى مقر المجلس الوطنى لإتحاد اليساريين والإشتراكيين.. وأخذ يندد بإنتشار رؤوس المال الأمريكية فى البلاد.. وعبث الأمريكان بثروات الوطن.. وتقسيم تورتة الثروات بين مستثمرى أمريكا فى الشرق الأوسط.. وأن الشعب عليه الدور الأكبر فى المقاومة من خلال المقاطعة التامة للمنتجات الأمريكية..
والآن..
وبعد خروجة من مقر المجلس بحوالى نصف ساعة إكتشف شيئاً مهماً.. شيئاً شديد الأهمية..
انه كان يحتاج بشدة للتبول قبل الخروج من مقر الإتحاد ..
وإنه فى زمرة إنفعاله الثورى الاشتراكى ووسط مئات من الهاتفين والمعجبين قد غادر المبنى إلى شارع جانبى حيث سيمشى على قدميه (لا يمتلك سيارة كجزء من إشتراكيته الموغلة) إلى أقرب موقف أتوبيس حيث يستقله إلى شبرا.
ورغم أنه لم يدخل مسجداً منذ خمسة وعشرين عاماً على الأقل إلا إنه لم يتردد لحظة فى اللجوء إلى كل جوامع المنطقة لكنه وجدها بكل أسف مغلقة بالترابيس، فلا هو وقت ظهر ولا وقت عصر.
الإحتباس الذي يكابده جعله يلعن سنسفيل جدود كافة الأحزاب فى العالم، وكافة المتحدثين بالسياسة، والألم الذى يعانيه جعله يفكر للحظة لإن يلجأ إلى الحديقة المواجهة لمجمّع التحرير فيفتح سوستة البنطلون ويقضى حاجته فى أكبر ميادين العاصمة ويرتاح.
لكن ذلك الشاب اللعين إلذى ظهر فجأة من العدم فصافحه فى تبجيل واحترام وانحنى أمامه، ويبدو أنه أحد تلاميذ الإشتراكية الجدد، قد جعله يتراجع عن فكرة قضاء الحاجة فى الطريق العام، حرصاً على ما تبقى من عمره، لو تبقى منه شيئاً بعد معركة العذاب البولية.
فجأة..
وبدون مقدمات.. ظهر أمامه المبنى الذى يحتل ناصية شارع طلعت حرب، إنه "كنتاكى التحرير" بكل ما يحمله من رأسماليته، وتسلطه، وإمبرياليته، وبرجوازيته العفنة القذرة، لكن لمحة فى ذاكرته تعود إلى عشر سنوات عندما تركه صديقه (عامر) ودلف إلى "كنتاكى" وعندما عاد علم منه أنه يضم "دورة مياه" فاخرة مريحة نظيفة، تلك اللمحة جعلته يفكر للحظة أن يحذو حذو عامر فيدخل إلى كنتاكى ويرتاح.
.. لكن لفته منه إلى الميدان الواسع بكل ما فيه من بشر، وإسترجاع ذكريات اليوم بما فيها من إشتراكية وشيوعية، جعلته يتردد ألف مرة فى الدخول إلى ذلك المكان البرجوازى النجس.
لكن تأتى الزنقات بما لا تشتهى البشر
ودخل كنتاكى لأول مرة فى حياته، باحثاً عن ذلك التواليت الفاخر النظيف، إندفع دون أن يغلق الباب خلفه، قضى حاجته فى سعادة، عادت الدنيا إلى رونقها الجذاب بعد تلك اللحظات الأليمة، ونظرات الإمتنان تطل من عينيه فى تلذذ، بأناقة ونظافة المكان.
من أمام كنتاكى التحرير كان الصحفى المبتدئ "حسام" يعبر مهموماً، أتياً من المهندسين، بعد أن طرده اليوم رئيس التحرير من الجريدة التى يعمل بها مقابل 250 جنيه، حاملاً كاميرته، متجهاً إلى رصيف مجلس الشورى، متمنياً أن يجد اللقطة التى تسمح له بالعودة إلى الجريدة، داعياً الله بالتوفيق، وكانت أبواب السماء مفتوحة على مصرعيهاً، فقد وجد أمامه زعيم الإشتراكية الأكبر، وملهم الشيوعية الأعظم "أمين الرميحى" وهو يخرج من أبواب كنتاكى، ماسحاً يديه بمنديل كلينيكس برجوازى لعين.
فى اليوم التالى، تصدرت صور "أمين الرميحى" فى كنتاكى صفحات جميع الجرائد، وشهد هذا اليوم نهايته الثورية الإشتراكية، وفضيحته البرجوازية وعزله من الحزب الإشتراكى الثورى وطرده من الحركة الوطنية من أجل الأصلاح الإشتراكى.
قصة قصيرة
أحمد الصباغ
No comments:
Post a Comment