
كانت ترفع طبق الشوربة على شفتيها وترتشف فى تلذذ واستمتاع بالرغم من تساقط قطرات من الشوربة على صدرها البض الناهد بعنف، وكان يتأملها ويتأمل صدرها بما يحتويه من شوربة فى هيام وانبهار لم يسبق لهما مثيل.. شهر مكون من ثلاثين يوماً، لم يرها خلالهم وكان يأمل أن تكون لحظة اللقاء القادمة أمام نهر النيل العظيم لكى يطفئ النيل ما تشعله هىَ من مشاعر متأججة فى قلبه.
أصر أن يعزمها فى أفخم المطاعم المطلة على النيل، وأصرت هى على الغذاء فى مطعم يقدم لحمة الراس والحواوشى والشوربة والعكاوى، وطار هو فرحاً بإختيارها وظل يتأملها فى سعادة وتلذذ، إنه لقاء عاطفى من نوع خاص، لقاء الفقر الجائع مع الثراء المشتاق إلى الرمرمة، لقاءه هو ببدلته الأنيقة ذات الألفين جنيه من كونكريت، بها هى ذات البضى الكارينا المُقلد ذو الخمسة وعشرين جنيه.. لقاء الرجل المنبهر بالجدعنة والقوام والخصر القادمين من السيدة زينب، مروراً بالبياض المنبعث من سوبيا الرحمانى الذى يتشبع بحمرة التمر هندى، ثم ينشع فى خدود البنت ذات الثانية والعشرين ودبلوم تجارة.
بعد أن أتت على أربعة أطباق كانوا يمتلئون بالشوربة واللحوم والعكاوى والارز والسلطات فأصبحوا جميعاً فى ذمة الله، أخذ يتأملها فى هدوء، ويتعجب من قوامها الممشوق الرائع الذى يكفى طبقاً واحداً من الشوربة كهذا لكى يتلف قوام جميع ملكات جمال العالم، بادرها بضحكة مرحة.. إنتبهت فى خجل إلى أنها تجلس أمام حبيبها المكتوب فى بطاقته ذكر، وأنه من العار ما فعلته بالأطباق أمامه، فتوردت خدودها وغمغمت بكلمات لم يسمعها هو لكن بالتأكيد كانت تكفيه هزّات شفتيها الممتلئتين. سألها عن أمها وأبوها واخوتها السبعة، فأجابت بإجابات مقتضبة أن الجميع بخير، وهو يعرف أن الخير الذى تقصده هو أنهم جميعاً لازالوا أحياء، فهو يعرف أنهم يسكنون فى غرفتين بقلعة الكبش، وأنها تنحدر كل صباح من القلعة إلى شارع قدرى حيث تعمل سكرتيرة بـ 180 جنيه، وأن أباها – ككل الآباء فى الأفلام العربى – مريض، وأمها – ككل أفلام أمينة رزق – غير قادرة على العمل، وأن أخواتها يختلفون – ككل أفلام يوسف شعبان – ما بين السكير والمريض والمعوق.. كان يعلم جيداً أنه أتى من منيل الروضة ليحب بنتاً من السيدة زينب، وكان عليه أن يتحمل كافة المشاهد السينمائية الكلاسيكية التى سيشاهدها فى رحلة حبه بها، كان يعلم جيداً أن ثرياً يعشق فقيرة حالة أفضل بكثير من صعلوك يعشق أميرة..
لكن: هل يحبها بالفعل، أم أنه يحب المغامرة لا أكثر؟
أما هى فكانت ترى فيه عالماً مختلفاً تماماً عما تعيشه..
عالم لا تصرخ فيه أطفال يرتدين نصف ملابس علوية، ولا يسعل فيه أب مصاباً بالربو والسعال والقلب والسكر، ولا ترقع فيه أم بالصوت لإن إبنها قد دلق حلة الشوربة فوق الكنبة ذات الرجل المكسورة، كانت ترى بعين الخيال بيتاً تسكنه يطل على نيل الروضة الوارف بالأشجار الجميلة، ترى شقة واسعة فسيحة نظيفة فخمة، تغوص هى فى مطبخها لتبدع أروع ما أنتجته القريحة البشرية من طبيخ ومسبكات وطشة ملوخية بالأرانب.
كنت أشاهدهم بالقرب منى عندما كنت ألتهم رغيفين من الحواوشى فى إحدى المطاعم، فكانت من أرق وأنبل لحظات الحواوشى التى مررت بها وأنا وأقرأ في وجوههم آيات الحب الغذائى ودعوت الله أن يجعل حياتهما ألذ من طعم هذا الحواوشى.
أحمد الصباغ