كان كلما حاول النوم مجدداً منعته الفرحة، وسرقت السعادة من عينيه أى أثرٍ للنوم، وألتهب جسده إشتياقاً لها، وانطلقت خيالاته ترسم صوراً ممتعة للقاء الغد المرتقبِ..
هو اليوم على موعد معها لأول مرة منذ أن ولد، بل لن يتحرى الكذب لو أدعى أنه قد ولد اليوم من جديد، بل انه لم يولد من قبل وتلك هى المرة الأولى، هو اليوم طفلُ عمره "يوم" يمتلك مثل كل الأطفال مشاعراً نبيله وقلبٍ صافٍ.
شعر بحاجة إلى ملابس جديدة فإتخذ طريقه إلى أقرب محل ملابس واشترى طقماً يغلب اللون الأبيض عليه.. يتعانق مع مسحاتٍ من الأحمر والأسود، يرفع رأسه من تحت البطانية ليخترق ببصره ظلام الحجرة، فيلمح طقمه الأبيض الجديد يلمع فى عز الضلمة فيتفجر حماساً يزيد صعوبة النوم مرة أخرى.
ظلوا طوال ثلاثين عاماً هى عمره ينتحلون شخصيته، ويتحدثون بإسمه، ويدلون بأصواتهم فى الإنتخابات نيابة عنه، وينفقون عليه من ماله حسبما يتراءى لهم، ، لكن حان الآن موعد لقاءه لأول مرة بتلك الزائرة التى يتمنى أن تتخذ من وطنه "شقة إيجار قديم" يعطيها الحق فى الإقامة الدائمة بجواره ولا ترحل مرة أخرى.
أصابه اليأس خلال الأيام الماضية حينما رأى الكثيرين من بنى وطنه - الذين طالما شاركوه فى الحلم بها لعشرات السنين - ينقسمون عليها، ولا يحسنون معاملتها، يضيّقون عليها الخناق، ويخنقونها بتنظيراتهم، ويحاصرونها فى مسكنها التى لم تسكنه سوى عدة أيام، رآهم يفرضون الوصاية عليها، ويعودون للتحدث بإسمه لديها مرة أخرى، انتابه الرعب والقلق .. لكنه اتخذ قراره أخيراً بمقابلتها وحدها .. على انفراد.
اتخذ تدابيره وأقسم بألا يراه أحد.. وألا يعرف سره أحد، وألا يحدث أحداً بعشقه المتبادل معها، وأن يظل لقاءه بها خلف الستائر الداكنة وبجوار الصندوق الخشبىّ؛ سراً .. يحفظه فى ذاكرته حتى يموت، يتذكره كلما حاوطته المخاوف فينتشى بذكرى لقاءه الأول.
أقسم أن يحتضنها حتى يذوب فيها، وأن يحميها بين جوانحه المشتاقة، أقسم أن يفتديها بعمره، وأن يهبها حياته قرباناً رخيصاً تحت أقدامها، ويستبدل طواغيت الميكروفونات بها، فتصبح رفيقه الوحيد فى رحلته لبناء الوطن.
مع نسمات الفجر الأولى وانبلاج الافق المظلم عن أول نسمات العمر.. طارت البقية الباقية للنوم من عينيه فهب واقفاً وعلى وجهة ابتسامة، ينظر للملابس الجديدة كراهبٍ فى محراب الحرية يتعبد، إرتدى ملابسه، وضع على أذنيه قطعتين من القطن الأبيض، وعلى عينيه نظارة داكنة لا ترى سواها، إتخذ طريقه إليها، مر على قوم يرفعون لافتاتٍ مكتوبُ عليها كلماتٍ؛ لم يقرأها، ومر على قوم يحملون فى إيديهم أموالاً حاولوا دسها فى جيبه مرددين كلاماً؛ لم يسمعه..
عبر الأبواب؛ فصافحه رجلُ يبتسم وهو يعطيه ورقة.. اتخذ موقعه معها خلاف الستائر الداكنة، واحتضنها فى (عِشق) أقسم أن يبقى سرا.
أحمد الصباغ
No comments:
Post a Comment