كانت ليلة مشهودة، حين أتوا بى من حيث الدفء والهدوء والأنتخة، وألقوا بى عارياً فى طريق الحياة البارد، أعتمد على نفسى فى التنفس وفى هضم الغذاء بعد أن كان يأتينى مهضوماً على الجاهز، بل وفى إعداده وهى المهمة التى ظلت شاقة حتى الأن.
يااه.. هل الحياة فى حاجة إلى بنى أدم جديد؟
يملأ الدنيا صراخاً وزعابيباً وأذى فى خلق الله، ويلوث البيئة؟
كنت أنا الولد الوحيد، ديك البرابر، الذى طال إنتظاره، على ثلاث بنات، بذلت إمى فى خلفتهن مجهودا كبير، ثم قررا – أبى وأمى – نسيان موضوع الخلفة،بعد مرور سبع سنوات على آخر خلفة البنات، والتركيز على التخلص منهن بسترتهن فى بيوت أزواجهن.
ثم أتت المفاجأة مع بدايات عام 1979 حين أخبرت الدكتورة أبى أن المدام حامل، وظل أبى طيلة تسعة أشهر يحلم بالمولود الجديد على أحر من الجمر.. عسى الله أن يأتى بالولد .. ثم.. وعلى حين غفلة من الزمن.. أتيت أنا.. واضعاً رِجل على رِجل .. تاتاتاتاااااااااااا
لم أرى وجه أبى حين أخبرته (الداية) بأن ربنا قد رزقه بالولد، ولم يوافينى الحظ أن أسأله هذا السؤال، لكننى متأكد أنه كان يمر بلحظة نشوة وسعادة عارمة وهو الذى طالما حلم بالولد الذى يرفع رأسة بين أهالى المنطقة!
وإنقسم الرأى فى يوم مولدى إلى قسمين : رأى يرى أنها مأساة بكل المقاييس، ورأى يرى أنه أعظم حدث شهده التاريخ، وكان الرأى الثانى هو رأيى أنا فقط.
تقول أمى أننى كسرت حاجز السنتين فى الرضاعة.. ومعروف أن الإنسان الطبيعى إن زادت فترة رضاعته على سنتين فإنه يصاب ببلاهةٍ ما، لكن ربنا ستر ولم أصب بالبلاهة، وإكتفيت بحبة عبط على خفيف.
ولقد كان مولدى قبيل الفجر بلحظات، ولذلك نشأت بحب الليل والسهر، وكانت أمى تعشق الموغات، وكنت أعشقها جداً ويقال إننى كنت بشرب الموغات وانا لسه مولود، وتوحمت أمى فيا على العنب والبطيخ، ولذلك أعشق إلتهام العنب الأحمر والبناتى، وأكل البطيخ، ونحت القشر كما البط البلدى.
وفى رواية تقول إنهم كانوا مصرين على إعطائى إسم (عبد السلام) ، إلا أن أختى حبيبة قلبى وملاكى الحارس (غادة) هى التى صممت على إسمى وقالت يا إما (أحمد) لابلاش.
وفى رواية أخرى تؤكدها جدتى لأبى الله يرحمها التى ماتت عن عمر يناهز المية وأربعين عاماً أننى ولدتُ أخضر العينين، أصفر الشعر، شاهق البياض، وردىّ الخدود.. وعن تفسير التحول المفاجئ فى خلقتى يُقال إننى بعد الولادة مباشرة وبمجرد إستنشاق هواء مصر النقى، وأكل العيش البلدى المدعّم صار حالى هكذا.
وتروى أحاديث أسطورية عن حب والدى الإسطورى لى، وعن الدلع الذى لم يشهده طفل فى كتب تاريخ الأطفال، لدرجة أن أحد الرويات تقول أن أبى ظل طوال الثلاث السنوات يلاعبنى بصورة متصلة دون أن ينام، وكانت أقصى أمانيه أن أمنحه أبتسامة أو ضحكة طفولية صغنونة.
ولم يمهلنى القدر أكثر من الثلاث سنوات، ومات أبى..
كان مصاباً مزمناً فى القلب، ودخل لعمل عملية فى قلبه المريض، وخرج محمولاً إلى مثواه الأخير، دون أن أراه وأمنحه الإبتسامة الطفولية الصغنونة.
وبعد رحلة كفاح أسطورية إستطاعت أمى أن تربى التلات بنات، والولد الذى أصبح طويل القامة، وإرتدى نظارة بفعل عوامل التعرية.
وهذا الإبن يحتفل الليلة بيوبيله البرونزى، وبيوم ميلاده التلاتين، هكذا وبدون مقدمات، وقد إكتشفت أن الأيام والسنوات جرت فجاءة كما يجرى مترو الأنفاق فجاءة وبسرعة رهيبة بعد خروجة من محطة حسنى مبارك وكأنه خائف من شئ ما.
وهناك عدة لحظات فى حياتى، تظل تتردد أمام عينى كشريط ذكريات سينيمائى:
1- اللحظة التى سألنى أحدهم: عندك كام سنة يا أحمد؟ فشددت قامتى ورددت فى ثقة : تسع سنين.
2- اللحظة التى تركتنى أمى أمام باب المدرسة فى أول أيام أولى إبتدائى.
3- اللحظة التى أمسكت (نهى) فيها بيدى، وكانت الإنثى الأولى التى تمارس هذا الفعل.. وكان هذا فى تالتة إبتدائى عشان دماغكم ما تروحش بعيد، وأمسكت إيدى بحنان ورقة بحجة( قوم عشان نلعب).
4- لحظة دخولى الجامع لأول مرة، مع عم (محمد حمزة) جارنا وصديق أبى الله يرحمه، وكان فى صلاة الفجر، وكنت منبهراً إنبهاراً شديداً.
5- لحظة دخولى إستاد القاهرة لأول مرة، وكان ممتلئاً عن آخره، وكان ذلك فى أولى ثانوى.
6- لحظة أول بوسة من فتاة، وكانت من (مروة) وكنت وقتها فى رابعة إبتدائى، وكانت هى فى الثانوية، وباستنى بحجة إنى كنت بعيط، شوف يا أخى دلع البنات!
7- لحظة مشاهدة جثمان ميت لأول مرة، وكان ذلك وعمرى حوالى عشر سنوات، وكان الميت يبتسم بوضوح.
8- لحظة الصفع بالقلم لأول مرة، من أبلة (زنوبة) مدرسة العربى والدين والحساب فى تانية إبتدائى، بس بعد كدة بقى عادى.
9- لحظة دخول السينيما أول مرة، وروية الشاشة الكبيرة، وكانت سينيما (فونتانا) الصيفى بالمعادى، وكان فيلم شادر السمك.
10- لحظة الحصول على أول مرتب فى حياتى، وكان ذلك فى أواخر عام 2001، والغريب إن المرتب خلص بعد ربع ساعة.
11- لحظة ما تميت تلاتين سنة فجاءة.
من الجميل أن يعيش البنى أدم مننا، بعقل راجل، وقلب طفل، ويعمل عبيط، ويصدر الطرشة للهوم، ويطفى الشمع زى ما انا بعمل دلوقت، على أن ينفخ جامد حتى يستطيع إطفاء تلاتين شمعة.
كل سنة وإنتم طيبين، وكل إشراقة شمس وأنا أستمتع بدفء صداقتكم التى هى أغلى ما أمتلك.
أحمد الصباغ
No comments:
Post a Comment