Thursday, January 29, 2009

صـــــدمةُ الـوداع


ودعنى منذ دقائق صديقى وزميلى فى العمل .. وودع باقى الزملاء وغادر الشركة منذ لحظات لآخر مرة فى حياته
فاجئنى منذ أسبوع بالصدمة التى لم أشعر بها كليةً فى حينها  .. فاجئنى بخبر حصوله على فرصة عمل بالخارج وقرارة بترك العمل بعد أسبوع ومع إنتهاء شهر يناير .. وكان الشعور المسيطر علىّ وقت سماعى الخبر وهو تمنى النجاح له فى المكان الأفضل .. أما الآن وبعد أن غادر فأنا أشعر بحجم المأساه
إفطارنا سوياً كل صباح
فزعه وتوتره .. ولجوءه إلىّ لمشاركته فى إتمام عمل أو مواجهة مشكلة
رحلتنا اليومية بالمترو إلى المنزل
زيارتنا المتكررة بعد العمل لمول البستان ومحلات الكمبيوتر فى باب اللوق
أحاديثنا الخفية عن مديرينا وزملائنا فى العمل وفى السياسة والجنس والدين
حكاياته عن المسيح وعن القديسين وحكاياتى عن الصحابة والرسول الكريم
حكاياتة عن والده رجل الجيش - سابقاً - الذى تجاوز السبعين والذى عاصر فى مصر خيرها
سخريتنا اليومية من المتعصبين وكلامنا المتفتح المتفاهم اللطيف فى أحاديث دينية لا تنتهى
فرحتنا المشتركة بإيام الأجازات الدينية المختلفة .. وبإجازات مديرتنا المباشرة التى تتكرر من آن لآخر .. مما يعنى مزيد من الدردشة والراحة من أعباء العمل .. بالإضافة إلى "المرواح" مبكراً قليلاً
جلوسنا على المقهى لنشرب الشاى ونشرب أحاديث ونشرب صداقة
كلامنا عن أمريكا الذى يعيش فيها أخوه منذ سنوات بعيدة
وأسئلته المتكررة عن الاسلام وإستفساراته المليئة بالفضول والتطلع والدهشة عن شخص "محمد" وعن بلاد الإسلام  .. وعن رأى فئات المسلمين المختلفة فى المسيحيين
أحاديثة عن عائلتة والتى نشأت لم تعرف يوماً فرقاً بين محمد وجرجس ولم تميز بين مسلم ومسيحى بل لم يخطر ببال أحد من الأسرة أن ثمة فرقاً بين هذا وذاك
وأن الحديث عن مسلم ومسيحى كان يثير غضب والده ودهشته وإنزعاجة لأقصى حد وكان يقول : لم نسمع كلمة مسيحى ومسلم إلا هذه الايام
أربع سنوات
قضيت معه وقتاً كل يوم أكثر من ما أمضيت مع أهلى وأخوتى وأصحابى
أربع سنوات .. من تبادل القفشات والنكات والسخرية والحكايات
أربع سنوات .. من التبادل الفكرى والنقاش الثقافى السياسى الدينى الاجتماعى العشوائى اللذيذ
صرت الآن أحفظ آيات من الإنجيل وكلمات القديسين عن ظهر قلب
وصار يحفظ آيات من القرآءن ومن أحاديث الرسول عن ظهر قلب
أربع سنوات
أتفقنا خلالها على إن البشر يظلمون أنفسهم بالكراهية والحقد وتبادل الإساءة والتجريحات .. رغم أن الحياة قد تكون أجمل لو أحببنا
ولو أننا رأينا الله قبل أن نرى البشر .. ولو أدركنا أن ما نُرزقه وما نتحصل عليه هو " قدرٌ " وليست شطارة أو فهلوة
موبايله الـ " سونى إريكسون" وشنطته السوداء المحتاره معه .. وساعته الكاسيو .. ونظارته التى يرتديها من ثلاث شهور وكانت فى البداية محل ضحك وقفشات وسخرية لإنه إنضم مثلى لعالم أصحاب النظّارات
رعونته فى التعامل مع بعض الأشياء ومعالجة بعض الأمور
كلما نظرت الى مكتبه الآن بكيت
كلما نظرت إلى كرسيه لمحت صورته وهو يجلس عليه منذ لحظات
تعاملت مع طيبته كثيراً بإستخفاف ورأيت فيه من الوضوح وصدق النيه ما كنت أسميه أنا سذاجة لكننى الآن أراه شيئاً أخر
إنه ذلك الشئ الذى نشعر به عندما ننظر للإشياء من بعيد .. بعد أن نكون عشنا فى هذة الأشياء لحظة بلحظة
أحتاج الآن إلى أن أتصل بصديق أشكو له همى وشكواى من الفراق اللعين .. أحتاج لصديق يحترم وجدانى
كان هو القائم بهذا الدور عندما كان موجوداً منذ لحظات .. كان عندما يشعر فى صوتى بشئٍ ما .. يتحول مرحه وضحكه إلى وجوم وإهتمام وإستماع بتركيز إلى شكواى .. وأراه قد تحول فى لحظة إلى " أحمد " أخر يشعر بما يشعر به " أحمد " ويراى ما يراه " أحمد " .
لم أدرى أننى أكنّ له كل هذا القدر من الحب والمعزّة والتقدير والأحترام
لا أتخيل الآن ولا أستطيع تصور إننى قد لا أراه مرة أخرى .. وإن رأيته سيكون هذا كل عدة سنوات ولمدة دقائق .. فهو مسافر للخارج وميعاد سفره بعد أيام قلائل .. مسافر إلى حيث تفرق الأشياء بين البشر .. وتفرق الأيام بين الأصدقاء
بيننا عيشٌ وملح
وشاى أيضاً
وهو الصديق الصدوق فى رحلتنا الكلامية التى تبدو وكأنها لا تنتهى أبدا
كنا فى أيام "الأنتخة العملية " نقضى ساعات متواصلة فى الحديث وكان يضيق بكلامنا يوم العمل فننتقل بالمكان إلى المقهى لنواصله
هو رفيق حجرة مكتب واحدة .. مكتبه على بعد أمتار من مكتبى .. تطل علينا الحياة من شرفتين يفصل بينهما متران .. لكن شرفتى الضخمة كانت الأكتر جذباً لوقفاتنا الكلامية المطولة
هو رفيق العمل لمدة أربع سنوات
أربع سنوات منذ أن أتيت أنا إلى العمل بهذة الشركة وكان يعمل بها هو منذ شهرين
فكنا دائماً نتندر بأقدميته .. رغم صغر سنه عنى  .. وأسبقيتى بالعمل فى نفس المجال
أربع سنوات كانت من أجمل أيام عمرنا قضيناها تربط بيننا صداقة .. لا هى بصداقة عمل ولا صحبة شباب ولا معرفة مصلحة
وإنما نوع أروع من أن تصفه كلمات ويخطه قلم وترسمه ريشة
صداقة إنسانية من نوع عجيب .. تربط بين إثنين مختلفين تماماً من البشر
مختلفين فى الدين والطباع والميول والهوايات والأصدقاء والبيئة يتفقون فقط فى شئ واحد .. أن إنسانيةُ فطريةُ قد ربطت بينهم
صديقى العزيز المُفارق
صديقى العزيز الذى هو جزءاً من كيانى
لا أدرى هل ستقرأ هذة السطور التى إنتشلتها من وسط الدمع والزفرات الحزينة البائسة
ربما لن تقرأها .. أو ربما تقرأها ولا تستطيع أن تتواصل معى لإسباب خارجة عن يدك
لكننّى أقسم – ولست مضطراً إلى ذلك - أن عينىّ تملأها الدموع الآن
كتبت هذة السطور بعد سلامى الأخير عليك بدقائق
بعد ذلك السلام الحار الذى حاول كلٌ مننا أن يكتم خلالة الدموع .. لكننى "فقستك" ولمحت فى عينيك دمعة فضحتك وباحت بسرك وربما أنت أيضاً لمحت تلك الدمعة اللعينة التى فرّت على الرغم منى
تباً لهذا الألم الرهيب الذى تورّثه فينا بشاعة الوداع .. تباً لتلك الحروب التى تفرق بين الأحبة والأهل
تباً للإنسان .. ما أكفره
وما أقساه
أكتب إليك هذه السطور بدمع منهمر لا بحبر
أكتب إليك هذه السطور بضلع منفطر لا بيد
أكتب هذة السطور بوجدان منكسر لا بعقل
أكتب هذة السطور بكل لحظة من عمر إنسانيتنا ذات الأربع سنوات
والتى لقت فى عالم الأجساد نحبها .. لكنها لا زالت ترعى وتحيا فى عالم البشر الخفى الذى لا ندركه ببصرنا لكننا ندركه ببصيرتنا
إن شباك شرفتك المجاور لمكتبك تفزعه الريح الآن فيُغلق ويُفتح مصدراً صوتاً عنيفاً .. مضطر أنا لأن أقوم الآن لإغلقه .. فلن تقوم أنت لإنك غير موجود .. مكتبك الآن خالى .. أخرس .. وحيد .. صامت .. الأشياء والأورق والملفات صامتة وساكنة بشكل رهيب .. النتيجة الورقية على مكتبك لن تجد من يحوّل ورقها .. لن أسمح لأحد بأن يستخدمها بعدك .. سأحتفظ بها مفتوحة إلى الأبد على ذلك اليوم الكئيب الحزين يوم 29 يناير من عام 2009 م
أعلم إنك ستذكرنى كل صباح وأنت فى بلاد الشمال الحزين .. أعلم إنك ستذكرنى مع تناول إفطارك كل صباح وستذكر إن الآن كان هو الميعاد اليومى لتبادل أخبار الأمس معى .. ولإفتتاح موسم الصداقة اليومى المتجدد
ستذكرنى فى بلاد الشمال عندما تتساقط الثلوج .. ستذكر حديثنا المطول عن الجو الحار فى مصر
وعندما ستتنسم هواء الشمال البارد ستتذكر حديثنا عن الهواء المحمل بالتراب فى بلادنا .. وعندما ستجلس فى كافيه أوروبى راقى .. ستذكر جلستنا على مقاهى وسط البلد فى الشارع .. وعندما سترى أخبار الحرب على المسلمين فى فلسطين .. ستتذكر أحاديثى لك عن الجرحى الفلسطينيين وعن الدماء العربية المهدرة
وعندما ستجلس مع زملائك فى العمل لمناقشة مسائل العمل ستذكرنى وستذكر جلستك معى وستذكر ملفاتك التى الآن بين يدى
وستذكرنى عندما ترى فى الشوارع جريدة كنت أقرأها وستذكرنى حينما ترى فيلماً كان يعجبنى أو كان محل إنتقاد مننا
أدركت الآن كم كنت أنت مثل تلك الفاكهة التى ترصع الحياة .. ما أبشعها تلك " التورتة" بدون تلك الفاكهة
أدركت الآن يا صديقى إنك مثل كل الأشياء الثمينة فى حياتنا .. لا نعرف قيمتها إلا عندما نفقدها  .. ولا نبكى عليها إلا عندما تصبح خارج المتناول
لن أقسم إننى سأذكرك .. لإننى سأحاول ألا أذكرك .. وسأفشل فشلاً ذريعاً .. وسأذكرك فى اليوم ألف مرّة .. سأذكرك مع كل جرس كنيسة .. ومع كل كوب شاى سأشربه فى " ماجّى " الذى شهد أربع سنوات من صداقتنا
وسأذكر مع كل ورقة أمسكها فى هذة الشركة طيلة عمرى المقدر لى فيها
سأذكر أيامنا
وسأذكر كلامنا
سأذكر ساندوتشات القزاز
وساندوتشات بانوراما
فتحت الآن محفظتى لإطالع تلك الصورة التى أهديتنى إياها يوم 25 نوفمبر من العام المنقضى وكانت عليها إهداءاً إلى أخوك العزيز " أنا " وكأننا كنا نرى الفراق قادم من بعيد فأردت أن تترك لى تلك الصورة
ولم أدرى كم أنا عزيز إلا وأنا أرى نظرة اللوعة فى عينيك .. وشفتاك تعجز عن الكلام خوفاً من الإنفجار فى البكاء
فإكتفيت بإبتسامتك الهادئة وكلماتٍ متقضبة تشجعنى بها .. بأننا سنظل على تواصل وإننا سنلتقى كثيراً .. وأنت تعلم أن العودة إلى الديار لمدة خمسة أيام كل عدة سنوات لا تعنى إطلاقاً دوام التواصل وستكون أشبه بقطرة ماء لإنسان عاطش لم يشرب الماء منذ ألف سنة
سألتنى قبل أن ترحل بدقائق أن أدعو لك وأن أصلى لك
صديقى العزيز المُفارق
أدعو الله بعدد آيات الكُتب المقدسة وبعدد ذرات جسدى المخدّر الباكى .. وبعدد كلماتنا خلال عِشرة الأربع سنوات .. أن يهديك الله إلى الحق والصواب دائماً .. وأن يجعل التوفيق هو نصيب كل خطوة تخطوها فى حياتك .. وأن تنير السماء أركان الصداقة من حولك .. فتجد من البشر من يخلصون لك دائماً .. ويذكرونك بالخير فى حضورك وغيابك
وأن يمتّعك الله بالحياة التى لا نعيشها إلا مرة واحدة
وأن يزرقك بــ " النص الحلو" ليكمل لك سعادتك .. وأن تكون الــ " النص الحلو" حلوة الطباع والبصيرة وليست حلوة الشكل فقط
صديقى العزيز المُفارق
إن لم نلتقى مرة أخرى على وجه هذة الكوكب التعس .. فأتمنى أن تلتقى الوجوه فى فضاء أوسع وأرحب وأشمل يتسع لإحتواء علاقة الأرواح لا علاقة المادة .. ويضيئها نور البصيرة لا نور البصر .. وتظلّلها رحمة الخالق لا قسوة البشر
الوداع ،،،
أحمد الصباغ
قصر النيل فى 29 يناير 2009 م
الساعة الواحدة ظهراً

No comments:

Post a Comment