إصطباحة بلال فضل الأخير فى المصرى اليوم بعد إنتهاء عقده الذى وقعه مع الجريدة منذ عام
هتوحشنا يا عم بلال
هتوحشنا يا عم بلال
م أكن أريد لهذى «الاصطباحة» أن تنتهى. لكن أنا أريد وأنت تريد والله يفعل ما يريد.
لا أصدق أننا وصلنا اليوم إلى آخر الخط. اليوم أكون قد أكملت عاما من كتابة هذه «الاصطباحة»، التى كنت حريصا فى اتفاقى مع رئيس تحرير «المصرى اليوم» الأستاذ مجدى الجلاد على أن تكون محددة بعام واحد، برغم عروضه الكريمة بأن أكتب فى هذه الصحيفة إلى ما شاء الله، ربما لأننى كنت حريصا على أن أذكر نفسى دائما بضرورة أن أظل كاتبا زائرا يجب ألا ينسى أبدا قانون الزائرين الأزلى «يابخت من زار وخفف».
فى العادة يسألنى أصدقائى كلما عاودت الكتابة المنتظمة بعد انقطاع «هه.. هتعتذر إمتى؟»، لما يعلمونه من عِشْرتى الطويلة مع الفوضى، الآن وبعد عام كامل أفتخر بأننى خيبت أمل أصدقائى وحرمتهم من قراءة اعتذارى الذى كانت ترهقنى للغاية كتابته كل مرة بصيغة مختلفة ومبتكرة. يوم أن وقّعت أنا وصديقى الفنان الكبير عمرو سليم عقد الانضمام إلى «المصرى اليوم» قال لى مجدى الجلاد: «أرجوك ما تقصرش رقبتى وتعتذر بعد كام شهر»،
وبرغم أن تقصير رقبة الأستاذ مجدى يبدو تحديا مغريا لعابث مثلى، فإننى رفضت كل الإغراءات، وها أنا أترك «المصرى اليوم» وقد ازدادت رقبة الأستاذ مجدى طولا وفخرا بما تحققه صحيفته من نجاحات متواصلة، أفخر أننى عاصرت بعضها، وأضم تجربتى فيها إلى سجل إنجازاتى القصيرة فى حياتى التى لست متأكدا ما إذا كانت تَسُرّ الصديق، لكننى متأكد على الأقل أنها بحمد الله تَغيظُ العِدا.
«هتستحملونى؟» كان ذلك السؤال الوحيد الذى وجّهته للصديق مجدى الجلاد عندما كنت أتلقى عروضه الكريمة للكتابة فى «المصرى اليوم»، وأشهد الآن وقد انتهت تجربتى مع الرجل وصحيفته أنه تحمّلنى كأقصى ما يكون الإحتمال، برغم الإرهاق الشديد الذى سببته له ولصحيفته، مرة واحدة تأجل نشر مقالة لى بالإتفاق ما بيننا ونُشِرت بالفعل بعد ذلك كاملة، كل ما تم حذفه لى خلال عام كامل كان بضع كلمات من «اصطباحات» متفرقة كانت متجاوزة لكل الخطوط الحمراء،
وأعترف الآن أن حذفها لم يؤثر إطلاقا على ما أردت قوله، وأعترف أن الأيام لو رجعت بى لما وافقت على حذفها أبدا، ليس الوقت مناسبا للخوض فى التفاصيل، لكن روايتها ستظل دَيْناً فى عنقى لمجدى الجلاد، فما أسهل أن تكتب، وما أصعب أن يكون غيرك هو المستعد لدفع ثمن ما تكتبه.
الغريب أن هذا الرجل الجدع برغم كل ما سببته له من إرهاق، ظل مُصرًا على إقناعى بمواصلة كتابة «الاصطباحة» بأى شكل ولو كان تخفيض عدد كلماتها أو كتابتها ثلاثة أيام فى الأسبوع أو بأى صيغة يمكن الاتفاق عليها، لكننى شعرت أنه لن يكون من الأمانة أن أعطى هذه «الاصطباحة» اهتماما أقل من الذى كنت أكرسه لها (ستكون مشكلة عويصة إذا لم يكن قد ظهر لك أثر هذا الاهتمام)، خاصة أننى مقبل الآن على كتابة مسلسل تليفزيونى جديد أُعَوِّل عليه الكثير وأسأل الله أن يعيننى على لذة كتابته وعنائها، بالإضافة إلى مشروع ثقافى تليفزيونى جديد ظللت أحلم به سنين طويلة، وأخيرا وجدت مَنْ يشاركنى جنونى ويسعى معى لإخراجه للنور،
ورغم أننى أرفض الحكم على جميع أصحاب البالين بالكذب، إلا أننى أعوذ بالله أن يضطرنى يوما لأن أكون صاحب «ثلاثة بال»، لا إدانة لكل صاحب «ثلاثة بال» بل إشفاقا على نفسى من عناء ذلك. يبقى أن أقول لك إن مجدى الجلاد لم يطلق سراحى إلا بعد أن قطعت على نفسى عهدا بألا تنقطع صلتى بـ«المصرى اليوم» كمنبر اخترته واختارنى، بل إننا اتفقنا بإذن الله سوياً على مشروع جديد أتعشم أن يرى النور الصيف القادم من خلال «المصرى اليوم»، وأحسب أنه سيكون مفاجأة سارة للقارئ وغير سارة لجهات أخرى أتركها لفراستك.
تبدو مناسبة كهذه مغرية لكى يمتشق المرء حصان ذاته ويبدأ فى كيل المديح لنفسه والتفاخر بما حققه، بَيدَ أنّ لدىّ عقدة تاريخية من ركوب الأحصنة بسبب تجربة مريرة فى الطفولة، لذلك سأكتفى بكيل المديح على الواقف لقراء «الاصطباحة» الذين غمرونى بمحبة تفوق الوصف طيلة كتابتى لها، لم أجرب فى حياتى - على كثرة ما كتبت - أن يأتينى كل يوم حوالى ٣٠٠ إيميل مرة واحدة، أكثر من ثلاثة أرباعها رسائل حافلة بالمحبة والتقدير والخلاف المتحضر والثناء المخجل أحيانا، بالطبع كان من المستحيل أن أتواصل مع كل هذه الرسائل برغم ما فى ذلك من قلة ذوق، لكننى توصلت إلى صيغة تخفف شعورى بالذنب، وتمنعنى فى ذات الوقت من ارتفاع معدل تضخم ذاتى، وهو وحده القادر على إنهاء مصير أى كاتب،
حيث قررت الرد فقط على كل رسالة تشتمنى أو تهاجمنى بضراوة، أما رسائل المديح والثناء ففضلت أن أحتفظ بها جميعا فى ملفات خاصة مكتفيا بالدعاء لمرسليها بظهر الغيب، وها أنا ذا أطلب منهم الآن أن يسامحونى على قلة ذوقى معهم، وأن يدعوا لى بالصحة والتوفيق إذا كنت قد فعلت من خلال هذه «الاصطباحة» شيئا عِدِلا أو عليه القيمة، أما من آذتهم هذه «الاصطباحة» بشكل أو بآخر فسأكون فى غاية التعاسة إذا اتضح أنهم نسوا هذا الأذى يوماً ما.
يبقى لكى تنتهى حقاً هذه «الاصطباحة» الأبوخ من بين كل ما كتبت، أن أذكّر نفسى بأننى مستعد (وكان الله فى العون) لتحمل عتاب ولوم بل وتقطيم مَنْ كانت تمثل له هذه «الاصطباحة» شيئا ما، وهو أمر أعلم - بحكم التجربة - أنه شديد القسوة ولا سبيل لدفعه سوى اللجوء السياسى إلى أبونا صلاح جاهين للاستعانة بحله لإشكالية مثل هذه بقوله البليغ المعجز «الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة»، ربما ما يمنعنى من اعتماد قوله كحل نهائى خوفى من أن أوصم بالغرور لأننى تعاملت مع ما أكتبه على أنه زقزقة ومع نفسى على أننى طير (قد يوافق البعض على كونى من الطيور الجارحة، لا مانع)،
لكن ذلك لا يعنى أن أتخلى عن اللجوء إلى صلاح جاهين فى ورطة كهذه، لذلك سأرجوك أن تعتمد معى كلمته النهائية حرصا على وقتك الثمين الذى أضعت منه ما يكفى: «جالك أوان ووقفت موقف وجود.. يا تجود بده يا قلبى يا بده تجود.. ما حد يقدر يبقى على كل شىء.. مع إن عجبى كل شىء موجود».
أو كما قال الكابتن محمود الخطيب وهو يغالب دموعه: «ألف شكر.. ألف شكر».
بلال فضل
No comments:
Post a Comment