Monday, December 1, 2008

أحمد الصباغ .. المواصلاتى

 كما يمكنك ان تصف " الباندا" على انه كأئن جليدى .. وتصف " السمك" على انه كائن مائى وتصف " الجمل" على انه كائن صحراوى .. فإنك تستطيع بكل ثقة أن تصفنى  بأننى "كائن مواصلاتى" وبجدارة ، وتستطيع أنه تعرّفنى تعريفاً علمياً كاملاً بأننى : "مخلوق مواصلاتى" موطنه الأصلى أتوبيسات النقل العام والمترو وكافة المواصلات العامة والخاصة مثل الميكروباص والقطار والترام والتاكسى وحتى الباخرة النيلية والتروسيكل والتوكتوك والمعدّية ..  ويعيش فى المناطق المزدحمة وبجوار السوّاق والكمسرى .. ويتكاثر بالقرب من مواقف الميكروباص والميادين العامة .. وينمو ويترعرع فى الجو الخانق والمعبأ بعوادم السيارات

وذلك لإننى عندما جلست مع نفسى لإحسب الوقت الذى أقضية فى المواصلات العاملة والخاصة فوجدت أن معظم ساعات عمرى تمضى فى داخل اتوبيس او مترو او ميكروبااااظ .. إلى العمل .. ومن العمل .. والى اخوتى واقرابى .. وفى الخروجات والمصالح والمشاوير والذى منه ، وإن المسافة من غمرة إلى رمسيس بالأتوبيس وقت الذروة رغم إنها لا تتعدى كيلومترات .. لكنك تقطعها فى نفس الوقت الذى تسافر فيه الى الزقازيق فى الأوقات الهادئة .. وإننى عندما إطّلعت على أشعة لرئة مواطن مصرى .. أدركت إن ما يضخة أتوبيس 17 أثناء رحلتة من منزلى إلى ميدان الجيزة يكفى لتلويث هواء القاهرة بالكامل

وأستطيع أن أوجز النصيحة لك إن كنت من ركاب المترو فعليك بحمل أنبوبة أوكسجين لإستخدامها فى حالة تعطل المترو فى النفق . أما إذا كنت من ركاب القطارات .. فأنت "مغسّل وضامن جنة"  .. والبقاء لله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون .. وربنا يصبر أهلك .. ويعوضهم عنك بخمستلاف جنيه .. ولابد أن تتأكد قبل الركوب من ميعاد قيام القطار وميعاد الحادثة بتاعته

ان كلمة "مواصلات " فى مصر تختلف عن نفس الكلمة فى البلدان الاخرى ، المواصلات عالمياً تعرف على إنها "وسيلة" الانتقال من مكان الى اخر .. اما فى مصر فهى ليست وسيلة وانما غاية .. ويمكن لشخص إستطاع - بفضل الله - ركوب أتوبيس أن يقرر قضاء باقى عمره فيه

فالمواصلات فى مصر لا تصنف على إنها "وسيلة" .. ولكنها إسلوب حياه فمن خلال حياتى المديدة داخل وسائل المواصلات تأكدت أن المواطن المصرى يقوم بجميع وظائفة الحيوية داخل الأتوبيس والمترو والميكروباص .. يتغذى ويشرب وياكل وجبة وإتنين وخمسة ..  وينام ويذاكر ويتعبدّ ويمارس الرياضة وينجز إتصالاتة التليفونية ويتمم باقى أعمالة الكتابية ، ويزور أقاربة "اللى غالباً بيبقوا قاعدين فى كُرسى قريب منه " ويلاطف زوجتة أو خطيبتة إن كانت معه ، ويلاعب أطفاله ، ويراجع حساباته ويعد نقودة ، ويصل رحمة ويود جيرانة ..اللى فى الكراسى اللى جنبه

 إن كنت طالباً تستطيع أن تذاكر دروسك وتراجع للامتحانات وتبادل الملازم والملخصات مع زملائك وتكتب النقاط الهامة على ضهر الكرسى أو على حديد حائط المترو ، وتجهز البرشام ، وتتصل بصديقك لسؤاله عن آخر محاضرة وعن أسئلة الإمتحان وعن نتيجة الماتش ..الزمالك خسر كام ؟ وعن مواعيد جداول الامتحان .. الخ

أما بالنسبة للساندوتشات التى قمت بشرائها من عربية الفول اللى فى الموقف ، فيمكنك الآن تناولها فى وسط تطلعات وتمقيق مئات اجواز العيون من حولك .. ومصمصات الشفايف .. وإمتلاء المناخير برائحة المخلل اللى غالباً بيكون بايظ ، ولا تنسى ان تلقى بورقة الفول او كيس المخلل من الشباك ، وتزيح بقايا الفول والمخلل برجلك تحت الكرسى

 ويمكنك ممارسة العديد من صور العبادة .. قراءة القراءن .. والتسبيح وقراءة أذكار الصباح والمساء ويمكنك أن تستمع للخطبة اللى مشغلها السواق فى الاتوبيس أو للوعظة اللى بيلقيها احد الركاب المسنين فى المترو ، وصلة الرحم .. حيث ستجد معظم أقاربك فى نفس ذات الأتوبيس ،  ويمكنك أن تؤدى فريضة الزكاه حيث سيمر عليك خلال المشوار مئات من الشحاتين والمتسولين والمرضى

كما يمكنك شراء إحتياجاتك من المناديل والعطور والحلوى وأنابيب " الأمير " و "سوبر جلو" وبطاريات الراديو وسلاسل المفاتيح ومفارش المطبخ والدبابيس وبنس الشعر والإمشاط والفلايات وأبر الخياطة وكشافات النور الصينى وأطباق الصينى وكله صينى فى صينى

أما بالنسبة للنوم..، فإنك تستطيع مثلا النوم لعدة ساعات إذا فكرت أن تركب أتوبيس من شبرا لوسط البلد ، سواء نوم متقطع أو متصل .. بشخير وبدون .. على كتف اللى جنبك أو على ضهر كرسى اللى قدامك فحرية النوم مكفولة للجميع ، وحرية الشخير مكفولة للكل

 وفى المترو أيضا تجد من يمارسون رياضة العقلة بإستخدام المواسير والحلقات المعمولة عشان الركاب يمسكوا فيها بإيدهم وسنانهم ، فمصمم المترو إفترض أن الوقوف فى المترو هو الأساس ، وأن الجلوس هو حالة إستثنائية .. لذلك تجد عدد المواسير والحلقات أضعاف عدد الكراسى .. والمساحات المخصصة للوقوف أضعاف المساحات المخصصة للجلوس .. ووقوفك فى المواصلات ومطبات الشوارع هى رياضة تحميك من الجلطات وتيبس العضلات والمفاصل

وتستطيع أن ترى فى وسائل المواصلات العامة "فئة الحبّيبة" أو "ركُاب الغرام" وهم إما رجل وزوجتة أو شاب وخطيبتة أو شاب وحبيبته أو شاب وصديقته أو شاب وواحدة ما تقربلوش .. ممكن تلاقى ملاطفة أو تصل إلى حد المداعبة أو عتاب حميم أو شكوى عاطفية مريرة أو فضفضة على الماشى أو مسك إيد أو نظرات عيون هيمانة .. وانت واقف ماسك فى الحديدة وعمال تنزل عرق .. وهو عمال يحب .. والجميع يتابع وكأنة فيلم سينيمائى .. وصاحبنا العاشق يبدو وكأنة يشعر أنه فى صحراء القطب الجنوبى .. بردان وضامم رفيقته .. ومش واخد بالة إن فى سبعتلاف جوز عيون يتابعونه

وتستطيع أن تنمو وتكبر وتنضج فكرياً وتكون أسرة وتنجب أطفالا إن ركبت الأتوبيس من المرج للجيزة مثلا .. كما يمكنك أن تنهى قراءة رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم .. فى رحلتك من منزلك لمدينة الشيخ زايد بالميكروباص .. أو كتاب "شكلها باظت" لعمر طاهر فى المسافة من عملك إلى بيتك ، كما يمكنك قراءة جميع جرائد اليوم والإستماع إلى أخبار الصباح فى مذياع الأوتوبيس أو الميكروباص

كما إن بعض المواطنين المصريين يحرصون على أداء وظيفة التكاثر فى أتوبيسات النقل العام .. والقيام بمهمة التحرش .. وغالباً ما ينتهى هذا الفعل بنظرة نارية .. أو لطشة قلم .. أو شتيمة بالأم .. أو بوخزة من دبوس الطرحة .. وأحيانا بالسجن ثلاث سنوات وغرامة 5000 جنية

إن بلادى التى جعلتنى "كائن مواصلاتى" .. اقصى طموحاتى أن أجد الاتوبيس المتجه لمنزلى بعد أن انهى عملى فى وسط البلد ، وأن يسعدنى الحظ وأجد ربع متر لإقف فيه .. وجعلت من وسائل النقل أقصى طموح الإنسان .. كما أصبح رغيف العيش أحدى الأمنيات .. إن هذة البلد لازلت أحبها رغم قسوتها .. وسأظل أتغزل بها حتى آخر تذكرة مع كمسرى .. حتى لو أصبحت كائن مواصلاتى


أحمد الصباغ .. المواصلاتى

No comments:

Post a Comment