Tuesday, December 15, 2009

المحافظ الحلال ما بتروحش



كان الصباح لايزال غضاً عندما انبعث أول شعاع للنور على إستحياء فلم يلقى على ذلك الشارع الخالى تماماً من البشر سوى بعض ظلال باهتة، لكن الأرض التى بدت (منديّة) كانت توحى بيوم لطيف، كانت الساعة لم تتجاوز السادسة صباحاً سوى ببضعة دقائق، والبيوت الساكنة المتراصة، التى يحمل بعضها بعضاً من النباتات فى بلكونته والبعض يحمل أقفاصاً للعصافير التى لازلت نائمة، وظل الشارع ساكناً خالياً من أى حركة سوى قطة عبرته فى خشوع واستلقت تحت سيارة ثم لحست شواربها واستسلمت لنوم عميق.

وفجاءة لاح من أول الشارع أول أثار لبشرى قادم إلى الحياة الدنيا فى هذا اليوم الصبوح.. كانت امرأة ثلاثينية لا يخفى قلة النور جمال وجهها الواضح، كانت قد استيقظت من نومها منذ أقل من ساعة كانت كفيلة بأن تعد نفسها ليوم عمل جديد، وابنتها ذات السابعة ليوم دراسى جديد وتنطلق إلى لتعبر شوارع القاهرة وهى تمسك فى يدها يداً أخرى صغيرة هى يد إبنتها الصغيرة ذات السابعة لتصل بها إلى مدرستها فى الحلمية ثم تنطلق إلى عملها فى مدينة نصر.

كانت رحلة يومية شاقة لكن كان يحلّى لحظاتها ذلك الشرود الذى ينتابها فتنطلق فى أفاق رحبة من التأمل وأحلام اليقظة التى تكسب الدنيا بعضاً من طعم السعادة، وسمح لها هدوء ذلك الشارع وخلوة بأن تحمل إبنتها وتحتضنها وتنطلق بها فى مرح لولا أن استوقفها فجأة مشهد محفظة سوداء تفترش الأرض وتلحتف السماء وتبدو عليها قطرات الندى واضحة، تحكى بوضوع عن قصة شخص مسطول عاد إلى منزله بعد منتصف الليلة الماضية ووقعت منه دون أن يدرى.

أنزلت إبنتها فى هدوء وانحنت وامتدت يدها لتحمل المحفظة، فكرت لبرهة أن تتركها وتمضى، فلا هى لديها الوقت للدخول من مشاكل مع الضمير او مع الناس، ولن تحتمل عقبات السعى وراء صاحب المحفظة، لكن بنظرة سريعة داخل المحفظة علمت بأنها تمتلئ عن بكرة أبيها بالأشياء الهامة لكل شخص بالإضافة إلى بطاقة تحمل صورة ذلك المغفل.

فكرت أن تتركها لدى أحد المحالات أولاد الحلال لكن لم يكن قد ظهر أى أثار للبشر فى ذلك الوقت وفى ذلك الشارع الهادئ، فحملت المحفظة تاركة التفكير فى الوصول إلى حل إلى ما بعد إنتهاء يوم العمل.

كانت الساعة الخامسة مساءاً حينما دخلتُ إلى منزلى مثقلاً بهموم اليوم وحاملاً من مشاعر الإرهاق والجوع الكثير، فتحت الباب، ألقيت بحذائى وأشيائى وملابسى جميعهم فى إهمال وملل وتعب، إستقبلنى السرير مبتسماً، فأسلمت نفسى إليه فى سعادة، وذهبت فى نوم عميق غبت فيه عن الحياة الدنيا لساعتين إلى أن قلَّ راحتى صوت جرس الباب، وفتحت عينى ساخطاً من ذلك الضيف الكئيب الذى يأتى فى اللحظات الغير مناسبة، واندهشت بشدة لما وجدتُ أن الزائر هو امرأة فى الثلاثينات ومعها كائن صغير يبدوان كأنهما رقم عشرة.. واحدة وبجواره صفر صغير، بدت جادة ومتوترة سألتْ عن اسم ذلك المغفل الذى سقطت منه محفظته فى ذلك الشارع الهادئ فأخبرتها فى دهشة وتوتر بأنه أنا صاحب الإسم، وجدتُ يدها تمتد بمحفظة سوداء علمت على الفور بأنها محفظتى، وبأن الأقدار شاءت أن تعود إلى بطاقتى واندكسى وصورى وبورتريهى العزيز وكافة أوراقى بل حتى بالنقود التى لم تنقص قرشاً واحدا.

كتمتُ فرحتى بداخلى لكن لا أظن أن آثارها قد غابت عن وجهى، وفكرت فى حيرة فى ما سأقوله لتلك الجريئة التى لم تتردد فى الذهاب الى العنوان الواضح فى البطاقة وتسليم المحفظة بنفسها، متغلبة على مخاوف المصريين من الدخول فى سين وجيم، لكن صوتها قطع افكارى عندما نطقت بعبارة موجزة شرحت فيها أنها وجدتها فى (الشارع الفولانى) وهى ذاهبة إلى العمل ونصيحتها لى بمراجعة أوراقى لعلها تكون قد نقصت شيئاً ثم ظهر على شفتيها ما يشبه الابتسامة وهى تقول أن كل شئ كما وجدته البطاقة والكارنيهات وثلاث تذاكر مترو وورقة مرسوم عليها بورتريه لشخص، وان كل شئ تمام.

استجمعتُ قوتى وفكرت فى عبارات الشكر والثناء التى سأنهال بها عليها وبالعروض السخية والخدمات، لكن (ابتسامة شيك) قفزت على وجهها وتحية قصيرة مقتضبة ومغادرة سريعة قطعت افكارى، وجعلتنى اتأملها فى وجل وهى ترحل تاركه ورائها شخص مغفل يلهج لسانه بالشكر وتنطق عينيه بالإمتنان.
------------------
كنتُ قد أزعجتكم عندما ضاعت محفظتى، وحرصت على إزعاجكم أكثر عندما عادت إلىّ.. شكراً لأصدقائى وأخوتى وأحبابى الذين دعوا الله دعوة خالصة برد ضالتى فاستجاب لهم، حيث أن المحافظ الحلال ما بتروحش.



المغفل أدناه


أحمد الصـباغ


No comments:

Post a Comment