كلما شاهدت طفل صغير يحمل شنطته ويرتدى مريلته، عاد إلى ذهنى ذلك اليوم من أيام الابتدائية فى الاسبوع الدراسى الأول، عندما جاء إلى الفصل مدرس العربى الجديد، وطلب من كل تلميذ أن يقف ليقول أبوه بيشتغل ايه..!
لم أعى وقتها ما المغزى من السؤال، كل الذى أدركته لحظتها أن التلاميذ وقفوا واحدا تلو الاخر ليدلى بمهنة والده، موظف.. نجار.. حداد.. مدرس.. بتاع فول.. صاحب مكتبة.. وكل الذى اكتشفته عندما جاء علىَّ الدور؛ أننى الوحيد فى الفصل يتيم الأب، ولم أدرى ماذا أقول عن وظيفة والدى، فقد مات وأنا لازلت رضيعاً، وأنفجرت فى بكاء الخجل المرير، وسط نظرات الفضول والدهشة القاسية من الجميع، وتطوع بعض التلاميذ واخبروه: أبوه ميت يا استاذ.
وصرت كلما دخل مدرس جديد أرتجف، وأخشى السؤال الذى يهدر كرامتى ويذلنى ويثير شفقة الجميع على، لدرجة أن (عبير) جاءت بعد الحصة وأعطتنى قطعة كبيرة من الساندوتش بتاعها، وطبطبت علىّ، وأنا غرقان فى بحر الخجل.
الوحيد الذى شاركنى البكاء عند الإجابة على هذا السؤال هو (خالد) إبن (عم عمر) الله يرحمه ويرزقه الجنة.. فراش المدرسة.. وقتها أجهش (خالد) بالبكاء، إعتقاداً منه أن مهنة والده مهينة، ووقتها رد المدرس فى جليطة: آه آه انت ابن عم عمر..
وكبرت، وعلمت أننى لست الوحيد فى هذه الحياة يتيم الأب، وعلمت أيضاً لماذا كان يسأل الأستاذ سؤاله، ومدى علاقة السؤال بمجموعات التقوية بالمدرسة، وعلمت أيضاً أن الحياة ليست قاسية كما نتصور، وأن الله رحيمُ بنا كل الرحمة.. "ألم يجدكَ يتيماً فآوى؟".. وفوجئت أننى – والكثير غيرى – نزور مدرستنا الابتدائية، نتذكر طفولتنا، ونقوم بتقبيل يد عم عمر.. قبل أن يتوفاه الله منذ سنوات.. الله يرحمه.
أحمد الصباغ
No comments:
Post a Comment