منذ نعومة أظافرى وحلاقة الشعر تمثل لى القرف والهم الشديد الذى أضطر إليه مرة كل عدة أسابيع، ولا تفوقها صعوبة سوى عملية الإستحمام التى تتم بعد الحلاقة، ولا ألجأ للحلاقة إلا بعد وصفى من قِبل عدة أشخاص بإنسان الغابة، أو تأكيد البعض بأن رائحتى طلعت وتزكم الأنوف، فأعقد العزم وأشحذ الهمم وأخلص النية وأنوى الحلاقة، فأفاجئ بأن اليوم هو الإثنين.
والإثنين لمن لا يعرفه هو يوم الأجازة العالمي للحلاقين، وهو موروث عن الحلاقين القدامى، ومخترع يوم الإثنين كأجازة هو حلاق غلس كمثل بنى جنسه الذين لا يقلون رخامة عنه، وهو واحد من الرعيل الأول للحلاقين أيام ما كان الحلاق يقص عضوين وليس عضو واحد، حيث كان الحلاق قديماً هو حلاق ومطاهر فى نفس الوقت.
وحلاقى هو شاب يسمى (حموكشة) ترعرعنا سوياً، من أيام ما كان صبى حلاق عمره سبع سنوات، وأنا منذ أن كنت أدفع شلن ثمناً للحلاقة، ولذا فأنا أرى أن من حقى عليه ومن واجبه تجاهى أن أوقظة من النوم صباح الإثنين ليلبى نداء الحلاقة المقدس.
وحموكشة هذا على مايبدو مصابا بنوع نادر من الحول، فهو من هواة جمع الودان، يقوم بقص الودان أكثر من قص الشعر، يخطئ الشعر ولا يخطئ الودان، ورغم ذلك فأنا زبون مثالى نادراً ما أقول (أى)، صحيح قد يحمر وجهى، لكن الصرخة لا تخرج منى إلا فى حالة قطع جزء ضخم من أذنى.
وكان (حموكشة) يعمل صبياً لدى عم (فتحى) كبير حلاقين المنطقة، والذى تربيت على مقصه، وكان له الفضل فى قص أكثر من نصف أذنى الشمال، ثم بموت عم (فتحى) صار صبيه (حموكشة) حلاقاً وافتتح محلاً لقص الودان وأحياناً لقص الشعر من باب الخطأ.
وما أن تبدأ عملية الحلاقة حتى ينتاب المكان موجات من الرغى والثرثرة يبدأ (حموكشة) بالحديث عن مزاجه وعن شخصه الكريم، وعن رخامة (عبدة) المكوجى، و(مجدى) السمكرى، ومرورا بكل حرفيين المنطقة، ثم يدخل فى منطقة الأخبار فيحلل ويجود علىَّ من فيض كرمه، ثم يعرّج عن سيرته الذاتية فيحكى نبذات من حياته، وغالباً ما كنت أصاب بحالة إسفكسيا جراء تلك النوبات الجاهشة بالكلام.
وأجرة الحلاق إختلفت بمرور الأيام فمنذ أن كانت الجيرة هى ثمن الحلاقة، فليس من المعقول أن يأخذ الحلاق أجرة حلاقة طفل عمرة أربع سنوات من جيرانه، ومروراً بوصول سعر الحلاقة إلى 75 قرش، ووصولاً بزمن عادت فيه الحقوق للزبائن فصار الحلاق يدفع ثمن ما جمعه من ودان.
وأيام زمان كثيراً ما كانت الكهرباء تقطع أثناء الحلاقة، وهذا يعنى أمراً من اثنين، إما تشغيل كشاف بالبطاريات الجافة، وأما استكمال الحلاقة بعدين، لذلك إذا رأيت طفل يلعب فى الشارع بنص رأس محلوقة، فتأكد أنه أنا بعد تعرضى لحادث قطع نور أثنار الحلاقة.
الآن فقدت كل القدرة على مقاومة موجات الرغى، فأصبحت أعتبر فقرة الحلاقة جزءاً من نومى، وأمارس النوم العميق طيلة التواجد عند الحلاق، والأعجب أننى أستيقظ فأجد الحلاق لازال يحكى الروائع والبدائع عن حياته الحافلة بالضحايا.
وأما الذقن فلا طاقة لا أن احلقها عند (حموكشة)، ويكفى أن أذكر أنها حدث ذات مرة أن حلق (حموكشة) ذقنى، وذهبت للجامعة تانى يوم، فأجمع جميع الزملاء على أننى قمت بحلق ذقنى برقبة إزازة.
أحمد الصباغ
No comments:
Post a Comment