Wednesday, March 24, 2010

مقال الروائى مكاوى سعيد عن أديب الحوائط محمود عبد الرازق عفيفى

 في نهاية السبعينيات حتي منتصف الثمانينيات ملأ مصر ضجة وضجيجاً، وأصبح الشغل الشاغل للمثقفين ومنظري ومحترفي السياسة وحتي رجل الشارع العادي، في منحدرات المترو وحوائط الخرابات وعلي الجدران بطول وامتداد شوارع وحواري وأزقة القاهرة لوّن المساحات البيضاء «باسبراي» أحمر داكن «أديب الشباب فلان الفلاني.. يحظر علي بنات المعادي ومصر الجديدة قراءة مؤلفاتي.. من يسبح ضد التيار معي.. من يريد أن يعرفني يكفي أن أقول له إن عيني عسليتان».
مجهود خرافي رهيب، فعله هذا الأديب وجعله بين ليلة وضحاها من أشهر الناس بمصر مما استفزنا لقراءة مؤلفاته واحدا تلو الواحد بداية من أحكام علائق التزاوج، ومن يسبح ضد التيار معي، وكلام علي ورق بفرة، وسيدي المسيح عفواً.. إلخ. وبعد أن قرأنا معظم ما كتب خلصنا إلي أن من المستحيل أن يكون كاتب هذه الكتب شخصاً واحداً له مثل هذا الخيال الفذ لابد أنهم مجموعة كتاب من المشاغبين تخفوا تحت اسم أديب الشباب لتحريك المياه الراكدة، ودعم في رأينا هذا الاعتقاد كل هذا الانتشار المرعب والغريب لاسم هذا الكاتب علي كل جزء ثابت ومتحرك بالمدينة.
اتصلنا برقم الهاتف المدون بالكتاب، ورد علينا الأديب بأدب جم، ووافق بترحيب علي حضور الندوة التي ستناقش أعماله، أعدت قراءة كتبه تمهيداً لمناقشته فهالني ما قرأت هذه المرة.. كلام مرسل مكتوب بسلاسة غير عادية دون أي قيود أو محظورات، وكأنك تقود دراجة مقرفصاً علي كرسيها الصغير وفاتحا ذراعيك في استعراض مخيف.. وأعترف الآن أني لم أقرأ في حياتي ما يجعلني أضحك دونما توقف غير كتبه وكتاباته وأنها أدخلت علي حياتي البهجة لسنوات تالية، وظللت لفترة طويلة حينما أكتب لسبب ما كنت أجذب أحد كتبه من مكتبتي أقرؤه فيغادرني الاكتئاب علي الفور.
بمجرد أن تفتح الصفحة الأولي لأي من كتبه ستجد عنوانه بمقابر الإمام الشافعي وعنوان جاره بالسكن الترزي الذي يفصل البدلة بثلاثة جنيهات وبالقسط بعد ذلك ستجد صورة باهتة رديئة للمؤلف بالبدلة الكاملة واقفاً أمام قفص القرود بحديقة الحيوان معطياً ظهره للقارئ، ومكتوباً أسفل الصورة «تلاحظون الشبه الكبير بيني وبين الزعيم الخالد جمال عبدالناصر» وسيحكي لك في بداية الكتاب كيف حصل علي ليسانس الحقوق.. وكيف امتنعت دور النشر عن نشر مؤلفاته فقرر طبعها علي حسابه بمطبعة.. «وسيذكر عنوان المطبعة واسم صاحبها بالتفصيل» وسيدخلك في مغامرات معه وأنت تتابعه وهو يغامر بحياته حاملاً بوياته ولافتاته داخل القطارات أو علي سطحها مطارداً الفرق الرياضية الكبري التي ستلعب في المحافظات.. كيف يناور حتي يدخل «الاستادات» دون أن يفقد حوائجه.. كيف يختار مكانه بعناية في المدرجات بمحاذاة مرمي الفريق الضعيف الذي ستنهمر شباكه بالأهداف.. كيف يثبت لافتته في مجال عين كاميرا التليفزيون حتي يراه كل مشجع بمصر.
عندما تدخل في صلب الكتاب ستسحرك أعاجيبه- في رأيي المتواضع لم يستطع كاتب في العالم أن يكتب أحلام اليقظة بقدر هذا الأديب.. أصر وألح التليفزيون علي عمل مقابلة معه، فوافق بعد أن لوعهم.. أشترط عليهم أن يفردو له السجادة الحمراء من الدور الرابع «مقر التسجيل» حتي الدور الأرضي.. في المدخل استقبله كبار المسئولين ورؤساء القنوات والشيخ متولي الشعراوي الذي كان في استديو مجاور وعندما سمع بحضور الأديب هرع للترحيب به.. بعد انتهاء اللقاء تم إغلاق المنطقة التي أمام التليفزيون من كثرة الحشود التي أتت للسلام علي أديب الشباب.
ستجد أيضاً داخل صفحات كتبه قصة حب المطربة مني عبدالغني له.. حب من طرف واحد وكيف كان يعاملها بجفاء مما يجعلها تبكي فيرق قلبه ويرد عليها.. وكيف وسطت الفنانين لكي يقنعوه بمبادلتها الحب لكنه رفض بإباء وشممٍ وهو يقول إيه التلاقيح دي.
كان يحب فتاة عادية بسيطة كتب كل شيء عنها بلا خجل ولا حياء ذهبت فتاته للمصيف بالإسكندرية مع عائلتها فتتبعها صاحبنا إلي هناك واصطحبها إلي أحد شواطي الإسكندرية في جو رومانسي، لكن البنت سرعان ما تمردت علي هذا الجو وقالت بضيق إن رائحة مياه البحر زفرة وطلبت منه مغادرة هذا المكان.. أوصلها صاحبنا إلي أهلها ثم عاد بسرعة إلي نفس المكان بعد أن اشتري كمية ضخمة من الصابون النابلسي وجلس ساعات طويلة يغسل مياه البحر حتي لا تفوح منه الرائحة الزفرة عندما يعود بفتاته في اليوم التالي.
كنا بمقهي «علي بابا» قبل ساعات من الندوة نخطط للإيقاع به والسخرية منه والتنكيل به وكنا مدفوعين بنزق الشباب أيامها.. قررنا البدء بكلام جاد ومتزن حتي لا نضطره للمغادرة سريعا فيفسد اللقاء.. كنا نتكلم بصوت عال وبطريقة هوجاء دون أن ننتبه لأنه يجلس بالقرب منا يسمعنا ويراقبنا ويعرف تفاصيل مؤامرتنا.. قبيل مولد الندوة بربع ساعة خرج ولم يعد وتركنا ننتظر طويلاً حضوره.. عندما كلمه أحدنا في اليوم التالي سبه ولعنه وهو يخبره بوجوده بجوارنا وبتفاصيل خدعتنا.
في السنوات الأخيرة لم يعد له وجود، وأتمني من الله أن يكون بخير.. وعندما سألت عنه كثيرا منحني زميل صحفي هدية لا تقدر بمال. شريط تسجيل به حوار أجراه هذا الزميل مع أديب الشباب منذ سنوات بعيدة ولم ينشر.. سمعته ووجدت أنه تحفة فنية تفوق كل ما كتبه أدباء أمريكا اللاتينية من واقعية سحرية.. سأختار لكم من هذا الشريط سؤالين فقط لنري كيف أجاب عليهما هذا الأديب الفذ. سأله الزميل سؤالاً تقريرياً عن أسباب تخلف الشرق عن الغرب؟.. فرد الأديب مستنكراً أن الغرب متفوق علي الشرق أصلا.. وقال إن العكس هو الأصح، فالشرق متقدم لكن لا أحد يريد الاعتراف بذلك وضرب مثلا.. ظاهرة التخاطر أو توارد الخواطر أو ما يطلق عليه الغرب «تليبسي» أول تعريف لها في الغرب كان علي يد الطبيب «مايرز» بالجمعية البريطانية للأبحاث الباراسيكولوجية عام 1883.. بينما نعرف نحن كعرب منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما كان يخطب الجمعة ثم توقف عن الخطبة وجعل ينادي: يا سارية الجبل.. يا سارية الجبل ثلاثاً، وكان سيدنا عمر قد وجه جيشاً ورأس عليهم رجلاً يقال له سارية.. ثم حدث أن قدم رسول الجيش فسأله الخليفة عمر عن أخبار القتال فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا فبينما نحن كذلك إذ سمعنا منادياً ينادي: يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فانتصرنا علي الأعداء.
هذا تعريف للظاهرة قبل الغرب بقرون. أيضا نحن سبقنا الغرب في تقنيات السينما «الكلام مازال لأديب الشباب».. وعندما سأله الزميل الصحفي بدهشة كيف ذلك والسينما اختراع غربي مائة في المائة؟.. قال أديبنا ـ لافض فوه ـ أن فكرة الدوبلير التي استخدمها الغرب في السينما سبقناهم نحن باستخدامها، عندما نام علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» في سرير النبي «صلي الله عليه وسلم» ليلة الهجرة حتي لا يؤذيه الكفار!
هل هناك خيال بعد هذا؟
منقول من الموقع الرسمى للروائى مكاوى سعيد 

No comments:

Post a Comment